ان اغتيال الشهيد اللواء قاسم سليماني والشهيد ابو مهدي المهندس في غارة جوية امريكية غادرة ،وما استتبعه من رد أولي أيراني على القواعد الامريكية في العراق وسخط شعبي عارم ، يأتي في سياق التهور الذي دأبت على ممارساته الادارة الأمريكية في الشرق الأوسط وفي باقي العالم .
ان هذه العملية الغير محسوبة العواقب ، تثبت مدى تخبط هذه الادارة التي لم تستوعب بعد التحولات التي بدأ يشهدها المنتظم الدولي والعلاقات الدولية ، التي بدأت تتغير ملامحه في الاتجاه الذي ينهي الهيمنة الأ مريكية المطلقة لمرحلة ما بعد انهيار جدار برلين وذلك ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل وفي العالم . كما تثبت مما لا يدع مجالا للشك ، عدم استيعابها للتحولات التي تشهدها موازين القوى العالمية التي عرفت بروز قوى أقليمية و دولية تعمل جاهدة على مواجهة هذه الهيمنة ،سواء ميدانيا من خلال المزاحمة الندية لأمريكا في المولقع التي اعتبرتها مواقع نفوذ حصرية لها موروثة عن مرحلة الحرب الباردة ،وحتى طردها من المواقع التي دخلتها عنوة في مراحل سابقة ،خاصة بعد انهيار الاتخاد السوفييتي وانفراد أمريكا بالعالم . او عبر المواجهة السياسية في المؤسسات الاممية من خلال الممارسة المتكررة لحق النقض من طرف قوى عالمية صاعدة ضدا على الكثير من مخططاتها العدوانية ،التي تبيح لها سيادة الدول والاوطان.
كما أن هذه العملية التي راح ضحيتها لواء في الجيش الايراني ،وقاىد من الحشد الشعبي العراقي ، رغم كونها تشكل عملا عدائيا مباشرا تجاوز الخطوط الحمر في الشنأن الذي تتسم به العلاقات الدولية ، وخاصة العلاقة بين أمريكا وايران ،لكنه كذلك يبقى عملا معزولا رغم اهمية الرجلين في محور المقاومة للهيمنة الامريكية في الشرق الاوسط ،خاصة وان هذه المحور قد اختار موقعه ، و وضع يده في يد قوى اخرى عالمية مناهضة للهيمنة الامريكية ،تلتقي معها في المصالح والاهداف ،وهي القوى التي ابانت مؤخرا عن مصداقية ملموسة في علاقاتها الدولية ، تستهوي حتى من كانوا الى عهد قريب في الصف الامريكي . وبالتالي فان هذه العملية العدائية التي تنم عن طيش امريكي بين، لن تغير موازين القوى لصالح مرتكبيها ،بل العكس تماما، وتداعياتها لن تنحصر في حدود منطقة الشرق الاوسط ، بل ستتعداها الى باقي الشعوب والدول التي تعاني من الغطرسة الامريكية. بحكم ان الشرق الاوسط هو من اصبح الان يكثف الصراعات الدولية، وهو من سيؤشر على انبثاق عالم جديدد متعدد الاقطاب.
ان هذه العملية الاجرامية وما سبقها من مسلكيات وممارسات تدميرية ، في حق شعوب ودول هذه المنطقة من طرف امريكا ومن تبقى من حلفائها ، و ابتزازها المفضوح لانظمة الحكم الموالية لها ،وانحيازها الكلي الى جانب الكيان الصهيوني الغاصب لحق الشعب الفلسطيني في حق اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس . كل هذا رفع من منسوب كراهية غالبية شعوب المنطقة لامريكا، وأوجد بيئة شعبية عريضة مناهضة لها ،و في نفس الان حاضنة لقوى المقاومة . و رغم اختلاف هذه القوى في مرجعياتها الفكرية ،وانتماىاتها المذهبية ، واختلاف بعضها مع طبيعة انظمة الحكم في دولها، الا ان تمادي الغطرسة الامريكية في اذلال شعوب المنطقة، والانظمة الحليفة لها ،وتمادي الكيان الصهيوني في اذلال الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، زاد من الاحساس بالظلم لدى غالبية شعوب الشرق الاوسط ، بتنوعها القومي والمذهبي والطائفي ،مما وحد قوى المقاومة على اساس وحدة الهدف والمصير . و افشل في المقابل جميع المخططات الامريكية المدعومة من طرف بعض الانظمة الخليجية، التي تجد نفسها اكثر من اي وقت مضى معزولة من طرف شعوبها و الرامية الى التفرقة وجعل ايران كدولة فارسية شيعية، عدوا بديلا عن اسرائيل لشعوب المنطقة .
ان هذا العمل الاجرامي اذن ، هي حماقة غير محسوبة العواقب، تزيد من قوة وعزيمة محور المقاومة في مقابل اضعاف ما تبقى من حلفاء امريكا في المنطقة ، الذين انكفؤوا الى الوراء واصبحوا عاجزين على الترويج لادعائاتها بعد ان حشرتهم بسياساتها المهينة في الزاوية الضيقة. ولن تستطيع ابدا من خلال هذا النوع من العمليات حسم الحرب لصالحا . لان الحروب وفق ما تعترف به جميع المعاهد العسكرية ،لا تربح بالغارات الجوية ،ولا بالقتل الغادر للواء او لعشرات من المقاومين ، بل تربح بالانتشار البري والسيادة على الارض .وبما ان الشعوب في المنطقة باختلافاتها البينية ،واختلافاتها مع حكامها تأبى الخضوع للاستعمار والسيطرة الاجنبية ، فان اي حرب شاملة لن تكون نتائجها لصالح ،امريكا بل نصرا مبينا للشعوب التواقة للانعتاق والتحرر، خاصة اذا اعتبرنا ان خاصرتها الرخوة اسرائيل تقع ضمن دائرة الاستهداف الاولى، وبالتالي فكل ما تلوح به امريكا من تهديدات بتدمير الماثر الثقافية والروحية لشعوب المنطقة ، وبالرد الشامل حتى تثني رد المقاومة على هذه العملية الغادرة ، لا تعدو ان تكون مجرد مزايدات لاخفاء حالة التيه والضعف الذي وضعت فيه امريكا نفسها ،وهي مدركة تمام الادراك ان اي حرب برية شاملة ستكون عواقبها كارثية عليها .
ان هذه العملية العدائية الغير المحسوبة العواقب تكثف الى حد كبير ما وصل اليه تهور النظام النيىوليبرالي، وما انتجته صناعة التفاهة الاميريكية كمتزعمة لهذا النظام من توترات عبر العالم ، ومدى تاثير هذه الصناعة على العقل والوعي الجمعي الامريكي ، الذي اصبح سجينا لها بحيث اوصل اشخاصا تافهين الى مركز القرار فى الادارة الامريكية ، مرغوا هيبة امرييكا في التراب و شرعنوا لممارسات امريكية مهينة بشكل فج للشعوب والدول بما فيها حلفاىها الاوروبيين ،مرورا بسياسة العقوبات الاقتصادية و بالحصار الاقتصادي للشعوب ،وخوض الحروب بالوكالة وانتهاء بالتدخلات المباشرة .وهي الممارسات التي تجاوزت من خلالها كل الاعراف الدبلوماسية ،و تطاولت على القانون الدولي ومؤسساته، وتنصلت من جميع الاتفاقيات الدولية . وبالتالي فان هذه العملية الاجرامية لا تخدم في شيء المصالح الاستراتيجية الامريكية ،ولا مصالح حلفائها في المنطقة .بل هو مجرد استعراض لعضلات اصابها الترهل تأبى الاعتراف بنهاية عصر الكوبوي الامركي ، وبالتالي التعامل كدولة عاقلة تحترم كرامة الشعوب وسيادة الدول، وتسهر على الامن والسلم الدوليبن الى جانب قوى عالمية واقليمية صاعدة تشكل فيها المصالح المشتركة بين الشعوب اساسا متينا لبناء وتطوير العلاقات الدولية .
ان عملية اغتيال اللواء سليماني ، بقدر ما تشكل خسارة رجل محوري في محور المقاومة الذي وضع في اهدافه اخراج القوات الامريكية من المنطقة ، االا انها شكلت حسب ما اثبتته الوقائع عاملا موحدا للشعب الايراني بكل اطيافه ومعارضاته ،وحافزا قويا للمزيد من وحدة صف قوى المقاومة في مقابل انكفاء من لازالوا يراهنون على امريكا في المنطقة الذين لم يعد لهم ما يدافعون به ،بعد ان ضيقت عليهم الغطرسة الامريكية مساحات المراوغة، وهو ما يمكن ان نتلمسه في القرارات السياسية للحكومة والبرلمان العراقين القاضية بمطالبة جلاء جميع القوات الاجنيية بما فيها الامريكية عن اراضيها وتعليق الاتفاقيات الامنية معها .
يمكن القول اذن ان ما لم يحققه اللواء سليماني في حياته اصبح يتحقق بعد استشهاده ،والقادم نهاية الهيمنة الامريكية والصهيونية في الشرق الاوسط ومن خلاله باقي العالم لما شكله تاريخايا هذا المجال الجغرافي من تقاطبات حادة بين جميع القوى الدولية المتصارعة ،واي حسم للصراع فيه سينسحب على باقي مناطق النزاع . وبالتالي فان ما ستؤول اليه الاوضاع في هذه المنطقة الجغرافية هي من سيؤشر على ميلاد عالم جديد متعدد الاقطاب، قائم على مراجعات عميقة و اكثر عدلا وتوازنا في القانون الدولي ،بما يضمن الاستقرار والسلم الدوليين، وتجنب تكرار ما قد يعيد انتاج حروب كونية مستقبلا.
د.تدمري عبد الوهاب- طنجة
رأي اليوم