لا تسخروا من غباء ترامب وجَهلِه بل من غبائكم وهوانكم.. ترامب لا يعرف أنّ هُناك حُدودًا بين الهند والصين لكنّه يعرف أين تتكدّس أموالكم ليحلبها.. وقُدسكم ليضمّها.. لماذا لا يوجد بيننا “أحمق” واحد مِثل الرئيس الكوري الشمالي؟ وكيف نخشى أن يلحق الإيرانيّون بالعرب للأسَف؟
عبد الباري عطوان
احتفت العديد من الصّحف ومحطّات التّلفزة العربيّة بكتابٍ صدر حديثًا يكشِف عن جهل الرئيس دونالد ترامب بمعلوماتٍ جُغرافيّةٍ وتاريخيّةٍ بسيطة، من بينها أنّه لا يعرف أنّ هُناك حُدودًا مُشتَركةً بين الصين والهند، ويجهل ما تعني كلمة “بيرل هاربور”، المعركة التي تسبّبت بالاستخدام الأوّل والوحيد للأسلحة النوويّة ضِد اليابان، واعتقد أنّها موقع سياحي، ولكن غاب عن الكثيرين، ومن العرب خاصّةً، أنّ ترامب يعرف جيّدًا أين تتكدّس الأموال العربيّة لكيّ يحلبها، وأين تقع مدينة القدس المُحتلّة حتى يضمّها ويُقدِّمها عاصمةً أبديّةً لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وأين الحاج قاسم سليماني ليغتاله، والقائمة تطول.
الرّد على ترامب وتصرّفاته الابتزازيّة الاستفزازيّة، ومواقفه التي يصفها البعض بالحماقة، لا يتأتّى من خِلال السّخرية منها، وإنّما باتّخاذ السّياسات التي تُؤدِّي إلى ردعها، وجعله يُفَكِّر، والذين يُحيطون به، ألف مرّة، قبل الإقدام عليها، ومهما كان الفارق في مَوازين القِوى الذي يُستَخدم كذرائعٍ للرُّضوخ والاستِسلام.
المُقاومة اللبنانيّة عندما استهدفت القوّات الأمريكيّة والفرنسيّة في بيروت بشاحنتين مُفخُختين ممّا أودى بحياة 299 جُنديًّا أمريكيًّا وفرنسيًّا يوم 23 أكتوبر عام 1983، كانت تعرف جيّدًا أنّ الإدارة الأمريكيّة في حينها تملك صواريخ وحامِلات طائرات وقنابل نوويّة، ولكن هذا لم يمنعها من الانتِقام، عندما نضرب مثلًا بهذه الواقعة تحديدًا، وإنّما لتذكير الجانبين الأمريكيّ أوّلًا، والعربيّ الإسلاميّ ثانيًا بها، وللتّأكيد على أنّ هُناك في وسط 400 مِليون عربي، ومِليار ونِصف المِليار مُسلم من يُفكِّر بطريقةٍ مُختلفةٍ إذا تعاظم الظُّلم والاحتقار والإهانات على يد قِوى الاستكبار العالمي، نحنُ لسنا من دُعاةِ عُنفٍ، وإنّما دُعاة سلامٍ مجبولٍ بالكرامة وعزّة النّفس، وليس بالإهانات والإذلال ونهب الثّروات.
تفجيرات بيروت لم تبق أمريكيًّا أو فرنسيًّا واحدًا على أرض لبنان، هربوا جميعًا ولم نر خلفهم غير الغُبار، ولم يعودوا مُطلقًا، فهل يُريد ترامب وصحبه إعادتنا إلى الدّائرةِ نفسها؟
***
فإذا كان ترامب يتّسم بالحُمق والتهوّر، فإنّ هُناك عشرات وربّما مِئات الآلاف مثله في الجهةِ الأخرى المُقابلة على استعدادٍ للإقدام على “الحُمق” نفسه أو ما هو أخطر منه، ومن الصّعب أن يسير الحُمق في طريقٍ من اتّجاهٍ واحدٍ إلى الأبد، هل تفهمون الرّسالة؟ هل تُريدون شَرحًا أطوَل؟
حالة الهوان العربيّ والإسلاميّ هذه التي تَقِف عاجزةً مُستكينةً أمام هذا الابتِزاز الأمريكيّ الذي يقوده ترامب يجب البحث عن طُرُق للخلاص منها، ووضع حدٍّ لها، فلماذا لا يُوجَد بين أكثر من 56 دولة إسلاميّة دولة واحدة مِثل كوريا الشماليّة، ولا زعيم واحد مِثل كيم جون أونغ يتحدّى هذا التّرامب ويضع حدًّا لغطرسته وغطرسة سِياساته ويكبَح جِماحُه؟
غِياب هذا “الحُمق” العربيّ والإسلاميّ هو الذي يدفع ترامب إلى الاستِخفاف بالعرب، خليجيين كانوا أم غير خليجيين، والتّطاول عليهم بالقول إنّهم مُجرّد أبقار حلوب لا تملك غير المال، وبُدون الحِماية الأمريكيّة لا يستطيعون العيش يومًا واحدًا، وسيعودون إلى رُكوب ظَهر الإبِل والبُعران.
حتى الموقف الإيراني الأخير الذي ظهر في العَلن بعد اغتِيال الحاج قاسم سليماني على يد طائرة أمريكيّة مُسيّرة قُرب مطار بغداد ليس أفضل حالًا من الموقف العربيّ للأسف، بل اتّسم حتّى الآن بالارتِباك والضّعف، بعد الكثير من التّصعيد بالتّهديدات التي كانت تَرعِد وتزبد وتتوعّد، الأمر الذي دفع ترامب للتّطاول أكثر.
ها هو ترامب يُجبِر أوروبا على الرّضوخ لموقفه فيما يتعلّق بالاتّفاق النووي، ويدفع المُثلّث البريطاني الفرنسي الألماني إلى تفعيل آليّة تسوية النّزاعات في هذا الاتّفاق واتّهام إيران باختراقه، والذّهاب إلى الأُمم المتحدة لإعادة فرض العُقوبات الدوليّة كاملةً، وحثّها على التّفاوض مُجدَّدًا للتوصّل إلى اتّفاقٍ جديد، حسب مُواصفات الرئيس ترامب وشُروطه لتَجنُّب فرض رسوم بنسبة 25 بالمئة من واردات أمريكا من السيّارات الأوروبيّة ويأتي الرّد الإيراني “باهتًا” تمامًا مِثل الرّد الأوّل على اغتيال الجنرال سليماني، ولو عرفت أوروبا أن الرّد الإيراني سيكون مُؤلِمًا لما أقدمت على هذا الخُنوع.
الرّد المُفحِم على الرئيس ترامب وتهديداته وغطرسته، ليس بالمزيد من الإذعان، وإنّما بالوقوف في وجهه بقوّةٍ وصلابة، وأوّل خطوة في هذا الشّأن الخُروج من تفاهة التّقسيمات الطائفيّة الجاهليّة، وتشكيل تحالف عربي إسلامي حقيقي يَضُم العرب والأتراك والإيرانيين والباكستانيين والإندونيسيين والماليزيين، وكُل المُسلمين، وليقوده “أحمق”، بل أكثر حماقةً من ترامب ولا نُريده أن يعرف أنّ هُناك حُدودًا بين مِصر وليبيا، أو بين إيران والعِراق، ويكفيه أن يعرف فقط أنّ هناك حُدودًا أخلاقيّةً ودينيّةً وقيميّة بين مِليار ونِصف المِليار مُسلم والقدس المُحتلّة، ساعَتها سنرى ترامب وغيره يهزّون بأذيالهم خوفًا ورُعبًا وقَلقًا.
***
قولوا عنّا ما شئتم.. قولوا انفِعاليين، قولوا مُندَفعين، قولوا لا نقرأ خريطة موازين القِوى بدقّةٍ، وردّنا عليكم بَسيطٌ جدًّا، وهو أنّ الرئيس الكوري الشمالي لم يعبَأ بمِثل هذه الأقوال والفيتناميون عندما حاربوا أمريكا وهزموها، لم يملكوا أسلحةً نوويّة، والأفغان عندما هزموا الإمبراطوريّة السوفييتيّة لم يركبوا طائرات “إف 16” و”إف 15″، والطّالبان عندما أذلّوا أمريكا كانوا وما زالوا يستخدمون الدبّابات كحافلاتٍ عامّة ويجلسون فوقها وليس في جَوفِها.
أموالنا تُنهَب، وشُعوبنا تجوع، وحُكّامنا فسَقة، وهُناك من يُصَفِّق لحياة العبيد.. هذا الوضع لن يستمر و”عصر الحمقى” العرب والمُسلمين قادِمٌ حَتمًا.. والأيّام بيننا.