ليس غريبا أن تثير كل خرجة إعلامية لرئيس حزب تواصل زوبعة لا تَكُفُّ عن تسفيهه، ولا تتورع عن تَتْفِيِههِ، فحزب تواصل أكبر الأحزاب الوطنية وأكثرها أثرا في السياسة والمجتمع، وليست مواقفه أو مواقعه بالشيء القليل الذي يمكن أن يمر دون أن يحدث رجَّةَ/ردَّةَ فِعْلٍ في الساحة الوطنية.
الذي لا أعرف -بالضبط- دواعيه هو "الانزعاج المزمن" لدى البعض من الخرجات الإعلامية لرئيس الحزب، فكلما فَاهَ الرجل بكلمة ثارت في وجهها تدوينات ومقالات، بعضها يُوَارِبُ في تعبيراته، وبعضها الآخر يعاتب من مكان بعيد، أرجع البصر كرتين إلى كلمات الرجل المنطوقة وخطاباته المكتوبة فلا أرى سوى مسوغ واحد، أن خطابات الرجل تأتي دائما لتُخَرِّقَ أنسجة َالوهم الدعائي التي بناها "التفرد بفضاء مارك"، في حين أن مَحْمُودْ لا يشغل نفسه بالتدوين، وكأنه يقول: "لِيَ صناعة الحدث، ولكم الغبار".
في خطابه الأخير كان محمود يحمل مكنسته الطويلة ليزيح تلك الأنسجة الواهمة، وهي أنسجة وهمية كثيرة، بعضها بناه خطاب مهرجان تواصل "إصلاحات لا تقبل التأجيل" الذي عبر عن الأمل المشترك في الرئيس الجديد، ورغم دقة خطاب ذلك المهرجان وحذره إلا أن بعض من "تُحَلَّى لَهُ التِّفتِيشَه" من أصحاب الهوى "الغزواني" ربما ظنه توقيعا على بياض للنظام الجديد، وبعضها بناه الواهمون أنفسهم من مدوني النظام والدائرين في فلكه الإعلامي، الذين يَتمَنَّوْن ثم يكررون أمنياتهم، وبعد فترة يظنونها وقائع حدثت بالفعل.
من تلك الأوهام المنسوجة التي جاء خطاب محمود لينسفها وهم "النهج الجديد" و"تعهداتي"، وهي شعارات استنفدت أكثر عمرها الافتراضي –وهنيئا لجيش مدوني النظام المحترف، إنكم أقوياء-، ولكن الوهم بطبيعته لا يمكن أن يصمد أكثر من ذلك.
كان منح صفقة الحج لمقرب من الرئيس بأوامر عليا منه (والعهدة على وزير الشؤون الإسلامية) ينتمي بجدارة إلى "النَّهْج"، بل إلى أسوء عناوينه وهو "صفقات التراضي"، وكانت قضية التمييز بين الوافدين إلى مطار أم التونسي على أساس القرب والبعد من رأس النظام تنتمي إلى "النهج"، بل إلى أسوء عناوينه أيضا "سلطة السُّلَالَة".
كانت قضية شراء كميات كبيرة من الفاصلويا تنتمي إلى "النهج" مع تغيير المنتج حسب ثقافة السياق (وعلى مزارع بومديد أن تجتهد هذا العام فهي الأوفر حظا في بيع المحصول للدولة)، كان عنوان مرحلة ولد عبد العزيز "ياي بوي" وهو المشروع الذي حول أهل العاصمة إلى طوابير متسولين، أما عنوان هذه المرحلة فهو -فيما يبدو- "آدْلَگان"، الذي سيحول أهل الريف إلى طوابير متزاحمين على أبواب نقاط شراء "آدْلَگان"، هو إذن إكمال لمشروع إهانة الشعب الذي بدأه ولد عبد العزيز.
لا ينقضي عجبي من تثمين أحد النبلاء لزيارة الإمارات وديونها وإكرامياتها، وهو الذي أعرف رأيه الراشد والرصين في أن تلك الدولة لا تدفع أموالها إيمانا واحتسابا، وأن مع كل كل درهم تعطيه موقف تريده، فبأي منطق استطاع أن يقول ذلك ويتجنب كل حديث ولو من طرف خفي عن قناعاته! هي الدنيا عجب.
ما الذي رآه هؤلاء من إنجازات وعميت عنه عيون أهل تواصل؟
أن يقول لك كاتب يفترض في نفسه الرزانة والحصافة إن صدور حكم قضائي لصالح جمعية المستقبل إنجاز لأن القضاء لم يتدخل له، وفي السطر ذاته يقول لك إن ملفات مؤسسات مشابهة مثل مركز تكوين العلماء وجمعية يدا بيد وجامعة عبد الله بن ياسين وجمعية الخير وغيرها كثير؛ ما تزال تدرس (يعني في كواليس السياسة والقرار السياسي)، ثم لا يشعر بالتناقض، فهذا شيء مقرف في الحقيقة.
وأن يقول لك إن الأمن أصبح أحسن بعد أسبوع واحد من افتراس الكلاب السائبة لطفلة بريئة في قلب العاصمة، وبعد أسبوعين من قتل مُسِنَّةٍ على سجادتها في بيتها بيد عصابات تقتل وتغتصب وترهب وتخيف، أن يقول لك ذلك دون أن يذكر كل هذه المآسي فذلك شيء مثير للشفقة.
الأدهى من ذلك أن يكون إنجاز في نظر المدون الرصين الرزين ملاحقة مسؤولين لأن الجديد يشك في ولائهم له، فهو يحاربهم ليؤمن نفسه من فتكات رئيس سابق ملأ عليه الخوف منه مخياله وأربك خطوه، فمتى كان تصارع الأنظمة إنجازا تنمويا وآيةَ جدية أيها المؤمنون!
جِدُّ الأنظمة يُعْرَفُ من قدرتها على تحمل ضريبة الإصلاح، والأنظمة الجبانة لا يمكن أن تبني دولا أسست على الفساد، لو كانت أجهزة الدولة تشعر بجدية رأس النظام وتهابه قانونا لما رفض الدرك والحرس وأرقام الطوارئ الحضور لإنقاذ أطفال تلتهمهم النار في هزيع الليل، ولما رفضت أَسِرَّةُ المستشفيات الوطنية استقبال امرأة على وشك الوضع.
أتذكر هنا مقولة زعيم زيمبابوي الراحل موغابي في إحدى خرجاته الطريفة: "إذا كنت قبيحا في ظاهرك فلا تحدثني عن جمالك الداخلي، فأنا لا أحمل معي دائما أشعة X-Ray"، تصدق هذه المقولة على محللي النظام ومدونيه، فالنظام الذي يدافعون عنه لم يقدم بعد خطوة في
يا محللي X-Ray
النظام الذي تدافعون عنه ما يزال إلى هذه اللحظة يخذلكم، ولكم أجر الصبر والاحتساب، وبإذن الله "أُجْرَتُـ"ـه، ولكن بعد أن تفقدوا كل مصداقيتكم، وبعد أن تفقدوا النور الذي جئتم من به أيام الرفض النبيل.
أهل تواصل يا محللي X-Ray، ينتظرون إنجازات مرئية بالعين المجردة أو بالنظارت الطبية العادية على الأقل، فهم رواد لشعب ائتمنهم وانتخبهم، وليسوا باعة مواقف أو مصفقي طابور خامس.
أمري لله
د. الشيخ أحمد البان