يبدو أنّ الحُكومة المِصريّة بدأت تخرج من حالةِ الاعتكاف السياسيّ والأمنيّ التي تبنّتها طِوال السّنوات الماضية بسبب تفاقم أزَمة سد النّهضة، وطَعنِها في الظّهر بخنجر “الحليف” الأمريكي المسموم بتآمرٍ إسرائيلي، وشُعورها بالعُزلة عربيًّا، الأمر الذي دفعها إلى العودة بتدرّجٍ مُتسارعٍ إلى السّاحة العربيّة، ومُحاولة استعادة دورها القِيادي الفاعِل والمُؤثَّر بالتّالي، مِثلما كان عليه الحال طِوال المَئة عام الماضية.
ما يؤكُد هذا الطّرح في نظرنا الزيارة السريّة التي قام بها اللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات المِصريّة إلى دِمشق مُنتصف الأسبوع الماضي، والتقى خلالها نظيره اللواء علي المملوك، رئيس مجلس الأمن الوطني السوري، وبحث معه التّصعيد التركيّ في شِمال سورية، وإرسال السّلطات التركيّة أكثر من 5000 مُقاتل من الجماعات المسلّحة المتشدّدة للقِتال إلى جانب حُكومة الوفاق في ليبيا، ضدّ قوّات الجنرال حفتر المدعومة إماراتيًّا ومِصريًّا وروسيًّا، وتُحاصِر العاصمة الليبيّة حاليًّا.
السلطات المَصريّة تُولِي أهميّةً كُبرى للمِلف الليبي، وتشعر بقلقٍ كبيرٍ من جرّاء وصول مُقاتلين ينتمون إلى فصائل مُصنّفة على قائمة الإرهاب إلى طرابلس، والقِتال في صُفوف حُكومة الوفاق التي يتزعّمها فايز السراج وتحظى بدَعمٍ من الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، ولهذا رتّبت هذه السّلطات (المِصريّة)، وربّما عبر اللواء كامل، زيارةً سِريّةً للجنرال خليفة حفتر إلى العاصمة السوريّة في الأُسبوع نفسه، وجرى التوصّل خِلالها إلى اتّفاقٍ بإعادة العُلاقات بين الحُكومتين السوريّة والليبيّة (حُكومة شرق ليبيا ومقرّها طبرق)، وإعادة فتح السِّفارة الليبيّة.
من المُؤكّد أنّ هذا التقارب السوري المِصري، والسوري الليبي، سيُثير قلق الرئيس أردوغان، لأنّه قد يُؤدِّي إلى إحداث تغيير جذري في خريطة التّحالفات السياسيّة والعسكريّة في مِنطقة الشرق الأوسط برمّتها، وربّما يكون أبرز ثِمار هذا التّقارب “خنْق” تركيا وزيادة حدّة عُزلتها إقليميًّا، وفي حوض شرق المتوسّط خُصوصًا.
نحن نقف على أعتاب محور إقليمي ثلاثي جديد يتبلور بشكلٍ مُتسارعٍ ستكون نُواته كُل من مِصر وسورية والجزائر، وأبرز أهدافه تفعيل العمل العربيّ المُشترك، وإعادة “تعريب” جامعة الدول العربيّة، وإنهاء الهيمنة الخليجيّة على دائرة اتّخاذ القرار فيها، وهي الهيمنة التي استغرقت أكثر من عِشرين عامًا تقريبًا، وكان من أبرز مواقفها وقراراتها تجميد عُضويّة سورية، و”تشريع” التدخّلات العسكريّة لتغيير “النّظام” فيها، إلى جانب كارثة دعم غارات حِلف النّاتو وإسقاط الدولة الليبيّة، وقتل زعيمها العقيد معمر القذافي بطريقةٍ دمويّةٍ بَشِعَةٍ وهتك عرضه بطريقةٍ تتعارض مع كُل القيم الإسلاميّة والأخلاقيّة.
اجتماع القمّة العربيّة القادم الذي من المُقرّر أن يُعقَد في الجزائر قبل شهر حزيران (يونيو) المُقبل، بعد تأجيله إلى هذا التّاريخ، ربّما يُعلِن تدشين هذا التّحالف الجديد الذي ستنضم إليه دول أُخرى مِثل لبنان والعِراق وتونس والكويت وآخرون، وسيكون من أبرز إنجازاته استِعادة سورية لمِقعَدها في الجامعة العربيّة، وإعادة التّوازن إلى مواقفها وعمليّة اتّخاذ القرار فيها.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي سيترأس القمّة المُقبلة، أبلغ السيّد أحمد أبو الغيط، أمين عام الجامعة العربيّة، الذي زار الجزائر قبل أُسبوعين، أنّه يُريد قمّة عربيّة مُختلفة عن كُل القمم السّابقة، وأنّ بلاده الجزائر لا يُمكن أن تعقدها إذا كان المِقعَد السوري خاليًا مِثل القمم السّابقة، وجاءت عمليّة التّأجيل ليس بسبب انتشار وباء الكورونا، وإنّما أيضًا لإفساح المجال أمام الجُهود المبذولة لإعادة الحُكومة السوريّة إلى الجامعة، وإزالة هذه النّقطة السّوداء في تاريخ العمل العربيّ المُشتَرك.
انكِفاء مِصر داخليًّا، وانشغال سورية، حُكومةً وجيشًا، في مُواجهة مُؤامرة تفتيتها بزعامة الولايات المتحدة، وابتِعاد العِراق عن دوره العربيّ بسبب الإرهاب وأزَماته الداخليّة، ومُرور الجزائر بحالةٍ من الشّلل لأكثر من رُبع قرن بسبب العشريّة الدمويّة، وعجز الرئيس بوتفليقة، الجسماني والعقلي، واستِخدامه كواجهة من قبل عصابة فاسدة، كلها عوامل أوصلت المِنطقة العربيّة إلى حالِ الانهيار الحاليّة.
الجزائر المُتعافية العائدة لن تقبل قمّة تغيب عنها سورية، ويَغُط فيها المُلوك والرؤساء والأُمراء في النّوم، ويستغرق انعِقادها بضعة ساعات فقط، الزّمن يتغيّر، وسنوات عِجاف العمل العربيّ المُشتَرك ستنتهي في الجزائر، أو هكذا نأمل ونتَوقّع، وما علينا إلا الانتظار.
“رأي اليوم”