إعلان

تابعنا على فيسبوك

الكنتي يكتب عن الجيش، والأمن، والأيديولوجيا..

سبت, 28/03/2020 - 14:46

ثلاثي طالما حذرنا منه الفكر الغربي، وتكفل الأدب بتشويهه. فقد ربط الغرب الجيوش في العالم الثالث بالدكتاتوريات وربط رجال الأمن بالقمع والقتل في الأقبية المظلمة. أما الأيديولوجيا فهي سر تخلفنا، وعجزنا عن تحقيق التنمية رغم مواردنا الهائلة. انصب الاهتمام أثناء الحرب الباردة على تصوير المنظومة الشرقية بصفتها تجسيدا لكل الشرور، فنشر كريستوفر ولسون روايته "حديقة الحيوان" عام 1963، يصف فيها المجتمع السوفيتي يعامل من طرف حكامه كما تعامل الحيوانات في الحدائق العامة!
 وكان أريك آرثر بلير (جورج أورويل) نشر عام 1949 روايته الشهيرة "1984" محددا فيها تصورات الدكتاتور المجافية للمنطق والواقع.." الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة." وتبنى الفكر الغربي هذه الرؤية الكاريكاتيرية لمن تصوره الدعاية السياسية والاعلامية دكتاتورا. فأول شيء يوصم به الدكتاتور هو أنه غير سوي؛ معدل ذكائه أقل بكثير من المتوسط العام، لديه نزوات غريبة، ومضطرب نفسيا، لذلك فإن محاكمة تصرفاته إلى العقل مضيعة للوقت...
    وابتلعت نخبتنا الطعم! فامتاز أدب أمريكا اللاتينية برواية الدكتاتور الذي غالبا ما يصور وفق المساطر التي حددها أورويل. وازدهر هذا "الأدب" لما حظي به مروجوه من شهرة عالمية، وجوائز دولية، فنسج كتابه على منوال رواية "السيد الرئيس" لميغيل آنخيل أستورباس. واشتهر منهم غابرييل غارسيا مركيز بروايته "خريف البطريرك"، وغيرها من رواياته المنتظمة في أدب "رواية الدكتاتور".
 أفلح هذا "الأدب" في ترويج صورة نمطية لحكام أمريكا اللاتينية؛ ضباط من مستويات اجتماعية متواضعة، وثقافة محدودة تتحكم فيهم نزواتهم، وتسيرهم رغبات جامحة لإشباع كل ما حرمتهم منه طفولة بائسة... وسحب الكاريكاتور على كل الأنظمة الوطنية في العالم الثالث، إذ التعريف الغربي للدكتاتور "هو كل ضابط وطني استولى على السلطة وكانت له ميول تحررية، وتصورات للعدالة الاجتماعية." فلو عدنا إلى مثال أمريكا اللاتينية لوجدنا أن النهضة الاقتصادية في الأرجنتين والبرازيل حدثت في ظل أنظمة عسكرية وطنية. أما في اتشيلي، حين انتخب الشعب وفق المساطر الغربية للديمقراطية، رئيسا اشتراكيا عمد الغرب إلى قتله في انقلاب عسكري فاشي! ونفس النمط تكرر في إفريقيا حين استخدم ضباط لا ينتمون إلى المؤسسة العسكرية الوطنية وإنما إلى "جيش الإمبراطورية" لإسقاط الأنظمة الوطنية التي وصلت إلى السلطة حسب المساطر الديمقراطية الغربية!
 لقد كان الهدف من كل ذلك إحداث شرخ بين الجيوش والمواطنين، لإدراك الغرب أن المؤسسة العسكرية بوطنية أفرادها وانضباط نظمها هي وحدها القادرة على التصدي لهيمنته. فقد شوهت صورة الضباط الوطنيين أصحاب المشاريع الاجتماعية بإلصاق صورة الدكتاتور بهم. وحين استقرت تلك الصورة في المخيال الشعبي جيء بضباط عملاء ليجسدوها في الواقع. فلم تعد نخب العالم الثالث تناضل ضد الاستعمار الغربي، وإنما اتجه نضالها ضد جيوشها الوطنية!
 تزامنت هذه الحرب على الجيوش مع حرب أخرى على الأجهزة الأمنية التي وصمت بالوحشية، والتصفية خارج القانون في أقبية مظلمة باردة لحساب نظام شمولي، وضد الشعب البائس المطحون بين جزمة الضابط، وقبضة المخبر... وكما هي العادة شملت الصورة المقيتة كل الأجهزة الأمنية من رجال المرور، إلى ضباط الشرطة القضائية، وضباط مكافحة المخدرات، وضباط الأمن الخارجي والداخلي.. أصبح الشعب يخاف الأجهزة ويمقتها بسبب حالات تعذيب، مارسها أفراد من الأمن السياسي!
 يتذكر الناس، أيام الماكارثية، مطاردة مكتب التحقيقات الفيدرالي لليساريين الحقيقيين والمتخيلين؛ مطاردة راح ضحيتها العشرات من نخبة المجتمع باتهامات باطلة وأدلة مفبركة. زادت تلك المطاردة المشينة من شعبية مكتب التحقيقات الفيدرالي لأن الاعلام صورها عملا بطوليا يدافع عن الوطن، وقيم العالم الحر! أما كل ما تقوم به أجهزتنا الأمنية فهو مجرّم لأنه مصادرة للحريات العامة والفردية لخدمة أنظمة تسلطية!
 وبذلك تقام هوة عميقة بين المواطن وأجهزته الأمنية التي تصور خادما للنظام الشمولي. روج بعض الكتاب هذه الصورة البشعة لأجهزة الأمن من خلال ما عرف في وطننا العربي بأدب السجون. فنشر عبد الرحمن منيف روايته "اغتيال مرزوق" عام 1973، ثم رواية "شرق المتوسط" عام 1975، وفي مصر نشر صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة"، وفي المغرب العربي لاقت مذكرات الناجين من سجن تازمامارت رواجا كبيرا...
 ثم حل الربيع، فأسقطت الأنظمة "الشمولية"، وفككت الجيوش، واخترقت أجهزة الأمن، وفقدت هيبتها، وخيمت الديمقراطية على الأوطان المدمرة مثل بومة "تبشر" بالخراب. لكننا ربحنا.. بدل حزب واحد مئات الأحزاب، وبدل انتخابات كل خمس سنين، انتخابات كل سنة أو سنتين، وبدل حكومة مستقرة، حكومات كل بضعة أشهر، وبدل دول مستقلة أطلالا محتلة.. تدربنا سريعا على "لعبة الديمقراطية" فأعجبنا تكرارها فتحررنا من رتابة الأيديولوجيا... 
"ضع كتبك المعقدة جانبا، فكتب المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة... لا تقدم لنا "فكرة جيدة" من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملآى بها سلفا. هذه النظرة الثاقبة في عينيك مقلقة: وسع حدقتي عينيك، وأرخ شفتيك. ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة، وينبغي أن يظهر ذلك... لقد تبوأ التافهون موقع السلطة."(نظام التفاهة، تأليف د. آلان دونو، ترجمة د. مشاعل عبد العزيز الهاجري). إنها النهاية المؤلمة للنظام الديمقراطي؛ نظام التفاهة، وجاء كورونا ليثبت ذلك حين تركت أنظمة "التفاهة الديمقراطية" شعوبها نهبا للوباء.. أوصلت الديمقراطية إلى السلطة في إيطاليا محاميا متهما بالتزوير في سيرته الذاتية، وفي إسبانيا سياسيا فاشلا يطلقون عليه "البديل" لفشله المتكرر في الانتخابات البلدية والنيابية واحتلاله المقاعد الانتخابية بعد استقالة أصحابها، وقد كلف بتشكيل الحكومة بعد رفض الفائز بالانتخابات تشكيل حكومة أقلية، وفي فرنسا مصرفي مغلول اليد يلاحق أصحاب المعاشات، وفي بريطانيا صحفي أقيل لثبوت تزويره اقتباسا استشهد به، وأخرج بلاده من الاتحاد الأوربي بترويج كذبة حوكم بسببها...
 أما في أمريكا فقد اختار الناخبون بطل رواية "لا يمكن أن يحدث هنا" للكاتب الأمريكي سنكلير لويس 1936، "شخص من خارج الطبقة السياسية، شعبوي ديماغوجي... يعد بتصحيح الأوضاع الاقتصادية، والتمسك بالقيم التقليدية، يعد بحل المشكلة مع المكسيك..." أفلحت تفاهة الديمقراطية في جعل الخيال واقعا! فظهر جليا أن "حديقة الحيوان" لا تتجسد في المجتمع السوفيتي 1963، وإنما في الديمقراطيات الليبرالية 2020. فقد تبنت حكومات "مناعة القطيع" وتركت أخرى العجزة "ينفقون" في ملاجئهم الموحشة، وفكر اترامب في إنقاذ الشركات بدل البشر...
لكن النظام الأيديولوجي الشمولي في الصين كان "إنسانيا، مفرطا في إنسانيته" حين سخر كافة مقدرات المجتمع لحماية شعبه. واستطاع ذلك بفضل إشرافه على النشاط الاقتصادي بقطعه يد آدم سميث الخفية، وتنظيمه المجال السياسي في حزب واحد تتجدد فيه الطبقة السياسية الوطنية، بدل مئات الأحزاب المخترقة والمتصارعة.
وفي روسيا حمى ضابط الأمن بوتن بلاده من الكورونا، كما حماها من قبل من سيطرة رأس المال الأجنبي والتفكك الديمقراطي، وهب لمساعدة إيطاليا التي تحاصر بلاده انسجاما مع قرارات الاتحاد الأوربي.
وفي بلادنا بادر رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الذي تشرب الوطنية في ثكنات الجيش إلى اتخاذ الاجراءات اللازمة لحماية الوطن وتحصين المواطنين ضد الوباء، فأعلن تسخير كافة موارد الدولة لهذه الغاية، مدشنا بذلك هبة وطنية من التضامن بين المواطنين. واستنفر جيشنا، وأجهزة أمننا، إلى جانب الطواقم الطبية لتأمين الحدود والسهر على النظام والسكينة.
لقد أظهر الوباء أن الدولة: جيش، وأجهزة أمنية، وأيديولوجيا، وقائد وطني... أما الديمقراطية الليبرالية فهي "نظام التفاهة"...

د محمد اسحاق الكنتي