كانت العرب تقول.. "ليس من رأى كمن سمع." في إشارة إلى ضعف الخبر في مواجهة العيان. لكن مع تطور التقنيات السمعية البصرية فقدت الصورة الكثير من صدقيتها لما تتيحه التقنية من التحكم فيها. فزاوية الصورة، وإضاءتها، وتفاصيل المشهد الذي تنقله خاضع للتحكم قصد إيصال رسالة تخدم هدفًا محددًا إلى متلق معين؛ ومن ثم فإن " عين المكان" هي التي تصنع المكان بكافة التفاصيل التي تخدم رؤيتها القصدية. فيتم انتقاء المكان، والتلاعب بتضاريسه، ووضع شخوصه في المكان المناسب، ووضع سيناريو للقصة "المفرطة في إنسانيتها"!
وقديمًا نبهت العرب إلى أن "المكتوب يقرأ من عنوانه".. وحين يكون تلفزيون "العربي" في "عين المكان" فقد تحدد إطار الصورة.
فعين "العربي" حين تنظر إلى موريتانيا، تعكس على شاشتها صورة صنعت بحرفية كل تفاصيلها لتوصل رسالة ممول القناة الذي اشتهرت أذرعه الإعلامية بصورها المتقنة، وأخبارها العاجلة...
أن تنتج " وثائقيًا " عن أي شريحة اجتماعية في أي بلد في العالم سيعطيك النتيجة التي خططت لها مسبقًا؛ فإذا أردت أن تستخدم الشريحة للإساءة لبلد على خلفية خلاف سياسي مع ممول القناة، فإنك لن تعدم صورا تركز على مظاهر الفقر، وأشخاصا يتفننون في سرد قصص ظلم تشيب لها الولدان. فليس في العالم، وخاصة عالمنا الثالث، شريحة اجتماعية ليس فيها فقراء، وأفراد، ربما تعرضوا لظلم، فأغرتهم الكاميرا ومن خلفها بالمبالغة قليلا...
اختار تلفزيون العربي "عين المكان" حيًا فقيرًا من أحياء نواكشوط، وحدد إطار الصورة بصرامة تعكس فئة واحدة فقط، ليخرج الفئات الاجتماعية الأخرى المتجاورة مع الفئة الهدف من إطار الصورة.
فمن يعرف أحياء نواكشوط، الفقيرة والميسورة، يعلم أن كافة فئات المجتمع تتجاور فيها، لكن إطار الصورة قادر على العزل والفًرز والتعمية...
كان بإمكان تلفزيون العربي، لو أمره الممول، أن ينتقل إلى "عين المكان" تحت قبة البرلمان، ويضبط إطار الصورة على نواب الشريحة الذين أوصلتهم كافة مكونات المجتمع إلى السلطة التشريعية، أو يتجول في الوزارات، ومختلف الدوائر الحكومية ويضبط إطاره الانتقائي على الوزراء، والأمناء العامين، والمدراء من الشريحة المستهدفة... لكن غاية "العربي" تبرر وسيلتها؛ فهي قناة "فوق السلطة" الأخلاقية والمهنية تقدم صورة عن إعلام الفتنة الذي ينظر بعين " تبدي المساويا" وهي عن المحاسن كليلة. ولو أرادت رؤيتها لبدت لها جلية في مختلف البرامج الإنمائية التي تستفيد منها الفئات المهمشة وعلى رأسها الفئة التي قدمت عنها "صورة" صنعت كل تفاصيلها.
لم تعد الصورة مصدر إثبات، وإنما مثار شك وريبة لما تتيحه التقنية من التلاعب بها؛ فلا يزال المشاهد العربي يتذكر صور ضحايا غاز الأعصاب، وصورتهم وهم يضحكون بعد إنجاز المشهد! وصور أهل البصرة يتظاهرون في ليبيا!!! ومنذ سنوات "صنع" بعض "العقوقيين" صورة مغلول يباع في سوق نخاسة لم تعرفها هذه البلاد في تاريخها!
دأب المصور على طلب ابتسامة قبل التقاط الصورة. لن يكتفي المشاهد بالابتسام من صور "العربي" في "عين المكان"، وإنما سيضحك منها.. وشر البلدية ما يضحك.
د محمد اسحاق الكنتي
العنوان الأصلي للمقال "لم تعد الصورة دليل إثبات..."