بهذا التحريض ختم معد ومقدم برنامج "نقطة حوار" حلقته التي استضاف فيها الناشطة الإيراوية بنت الشيخ. وهي خاتمة يأسف لها الباحثون عن الخبر القين والتحليل الرصين في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية.. فقد تخلى مقدم البرنامج عن طبيعته وعنوانه؛ إذ لم يكن هناك حوار، ولم يسع الصحفي إلى تبني وجهة نظر الطرف الغائب، وإنما لعب دور المحفز لضيفته؛ يسترجع دعاواها الشنيعة أكثر من مرة، لتستقر في ذهن السامع والمشاهد!
ويصيغ أسئلته بمضمون الإدانة :"هل مازال لدينا..." والصيغة المحايدة للسؤال هي:" هل يوجد في موريتانيا...؟" ويترك لضيفته تقرير الحال؛ استمرارًا، أو استئنافا...
وحين تجيب ضيفته بنسبة محددة، فإن أبسط قواعد المهنية أن يسألها عن مصدر أرقامها، فإن لم تجب حملها مسؤوليتها. بدلًا من ذلك اعتمدالمقدم، في صياغة أسئلته، طريقة توحي بالأجوبة التي ينتظر.."هل نحن أمام الشكل القديم للعبودية..." ثم يزيدها إيضاحًا لما يريدها أن تقوله.."هل الشخص يباع ويشترى على أنه سلعة؟" وتراوغ بنت الشيخ في إجابتها.."ويورث." فواو العطف يفيد تبنيها لما سبقه، وتزيد عليه. لكنها لن تنطق مرة واحدة فعل البيع والشراء! أما التوريث فهو من باب المزايدة...
ويستمر الصحفي في تلقين ضيفته أجوبتها.."هل لدينا مثلا قوانين لا يتم تطبيقها؟" ويذهب به الحماس إلى"قتل ضيفته"، حين تخبره أن "المعارض كان يقتل في موريتانيا!!" فيشهد لها.." وهذا ما حدث لك بشكل شخصي..." ولما كانت الضيفة قد ماتت، في لا وعيه، فإنه يتقمص دورها.."ما تذكرين للأسف شديد البشاعة وأنت تتحدثين عن تجربتك الشخصية... لمجرد أنها تطالب بالقضاء على شيء كريه مثل العبودية... لكن أنا أريدك أن تسلطي الضوء على واقع هذه الفئة... ما الذي يواجهونه تحديدًا؟"
يناضل مقدم البرنامج لإضفاء الصدقية على أقوال ضيفته.."تتحدثين عن تجربتك الشخصية... واقع هذه الفئة..." هل الحديث عن التجارب الشخصية صادق دائما؟ وهل يمكن الحكم على واقع فئة كاملة من خلال مناضلة سياسية عضو في منظمة غير مرخصة!! وهل من مهام مقدم برنامج حواري تعزيز وجهة نظر واحدة؟
لم يكتف عبد الحميد بالإيحاء والتوجيه، والتعزيز... بل ذهب أبعد ذلك فوضع في فم ضيفته العبارة التي يريد.."يعني أللّي هُمّ الأسياد."بدارجة مصرية تظهر مدى تقمصه للدور... ثم طفق يبحث لعبارته عن تبرير، فلعله أحس بزلة اندفاعه..." وأنا أتحدث مع حضرتك لست متخيلًا أننا مازلنا نقول عبيد وأسياد، لكن واضح أنُّ دَهْ هو الحال لديكم!" ترى من أين جاءه هذا الوضوح! إنها تقنية قديمة؛ فحين نشعر بالإحراج نتمسك ب"عنزة ولو طارت"! ونغير الموضوع في اتجاه موت جورج فلويد لاستثمارها في عملية التحريض التي سيطرت على الحلقة، مشككا في نجاعة المظاهرات، ومستكشفا حلولا أخرى.."...أم ما الذي يمكن أن يغير هذا الواقع؟"
لا يعير الصحفي أي اهتمام لقول ضيفته:"ترشح رئيسنا للرئاسة..." ألا توحي أجواء المقابلة بسؤال بسيط:" هل رئيسكم من السادة؟"، من 10%؟ فما دمتم تباعون، وتشترون، وتورثون، وتقتلون لمجرد المعارضة... فكيف يحصد رئيسكم آلاف الأصوات في الانتخابات الرئاسية!!!
لم يرد عبد الحميد التوقف عند المفارقة، وإنما أولاها.."وُدنْ من طين وودنْ من عجين" ليختم المشهد بموعظة تلخص فصول المسرحية.."ولا أستطيع أن أقول لحضرتك إلا استمري، واستمري، واستمري حتى تنتهي هذه الظاهرة، أرجوك!"
لم يحاول الصحفي، ولا مرة واحدة، أن يشكك في أقوال ضيفته، أو يستوضح منها، أو أن يستخدم لغة قلقة (ربما، قد يكون، يحتمل...) وإنما كانت عبارته جازمة ( واضح أنُّ ده هو الحال عندكم...)، وكانت لغة جسده، وطبقات صوته تترجم بأمانة تبنيه على الهواء لما تم التخطيط له تحته...
وبذلك خسرت البيبيسي في هذه المقابلة أكثر مما ربحت إيرا؛ إذ لم تختلف في "نقطة حوار"، عن تلفزيون العربي في "عين المكان". أما عبد الحميد فقد حُمل اسما عظيما، رفض حامله في الشرق إضاعة فلسطين، وامتنع صاحبه في الغرب الإسلامي من التفريط في الجزائر.. لكن... فيBBC أضاع المهنية، وفرط في الحياد حين قبل، في"نقطة ساخنة" تقمص دور "شاهد ما شاف شِ حاجة"....
د محمد اسحاق الكنتي