إعلان

تابعنا على فيسبوك

جبل جليد العار

ثلاثاء, 28/07/2020 - 22:53

أعطى التناوب على السلطة الذي  أوصل رئيس الجمهورية السيد مـحمد ولد الشيخ الغزواني إلى سدة الحكم في شهر أغسطس 2019 ديناميكية جديدة لعملية إرساء الديمقراطية التي أصبحت في بلادنا مليئة بالعيوب منذ سنوات، كما أن هذا التناوب أعاد الأمل إلى الشعب و فتح آفاقا حقيقية أمام التغيير لأنه من المعروف اليوم على نطاق واسع أنه لا تنمية بدون ديمقراطية و أنه لا ديمقراطية بدون تناوب على السلطة. في هذا الصدد، من المسلم به أن مزايا التناوب السلمى على السلطة التى تبرر مركزيته فى النقاش الديمقراطى تتمثل أساسا في إمكانية تجديد قادة البلد بطريقة شرعية و منح الحكام الجدد فرصة إجراء جرد لتسيير أسلافهم و ما تركوه وراءهم من إرث مادي و معنوي لأن هذا الجرد ضروري للكشف عن  الممارسات الإجرامية المحتملة كسوء التصرف و اختلاس المال العام و انتهاكات الشفافية و القوانين المعمول بها في تسيير الشأن العام.

 الحمل الثقيل

في نظر المراقب المطلع كما في نظر المواطن العادي فإن تركة ” العشرية الضائعة”، حسب التعبير الذي أصبح متداولا بعد أن أطلقه عليها الرجل السياسيي و الإقتصادي، موسى افال، تشكل اليوم عبء ثقيلا كالجبل الضخم بل لنقل إنه كجبل جليد هائل من سوء الحكامة و الفساد ونهب ثروات البلد بوقاحة و الإفلاس الذريع و التعسف و التعدي و الظلم الفظيع.

نسعى من خلال هذه المحاولة لفك طلاسم إرث “العشرية الضائعة” إلى الإحاطة بالجزء الظاهر من جبل جليدي عسى أن تكشف لجنة التحقيق البرلمانية عن الجزء المغمور من خلال مهمتها التي تعتبر في الحقيقة مهمة شاقة لكنها مفيدة و مرحب بها.

قد يساهم تسليط الضوء بطريقة متقاطعة على هذا الجبل الجليدي في جعل الجمهور يعي مدى اتساع  و خطورة الكارثة التي عانت منها البلاد حتى بلغ السيل الزبى في جميع المجالات المؤسسية و السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية و الدبلوماسية، الخ.

تعود بداية هذه الكارثة إلى الإنقلاب العسكري الذي وقع سنة 2008، و الذي أصبح بعد ذلك انتخابيا و دائما.إن هذا الانقلاب الذى أنجب النظام المعزول من خلال لعبةالتناوب الذى جرى بفضل حماية المواد الدستورية غير القابلة للتغيير كان فاقد الشرعية إلا أنه نجح  في ضمان استمرار نظام عن طريق الإنتخابات المزورة و الرشوة و المكر و العنف و الديماغوجية مختفيا وراء واجهة ديمقراطية مزيفة كان يصون على الدوام بريقها بدهاء.

لقد أدى تكاثر الأحزاب و النقابات و المؤسسات ” المستقلة” و المنظمات غير الحكومية و وسائل الإعلام العديدة و المتنوعة إلى إعطاء صورة واهية بوجود تعددية ديمقراطية حقيقية لكن هذا الطلاء اللامع لم يكن سوى بديل محلي من تلك الديمقراطيات الشكلية التي انتشرت في القارة الإفريقية في تسعينات القرن الماضي أي أنه مجرد تحويل سطحي للدكتاتورية العسكرية أو الخزب الواحد إلى هذه العقيدة القارية الجديدة.

إن معظم الأنظمة التي أفرزتها هذه الدمقرطة المستوردة شيئا ما تتميز بعدد من الخصائص المشتركة منها على وجه الخصوص مصادرة السلطة و الإستلاء على موارد البلاد من طرف جماعة مافيوية صغيرة و تسيير ممتلكات الدولة من خلال قنوات يصب بعضها في بعض من السلطة إلى المال و من المجال العمومي إلى المجال الخصوصي. كان نظام العشرية الماضية مثالا شاهدا على هذا المنوال بما أن أفرادا من عصبة أسرية و دائرة ضيقة من الشركاء قد استولوا على البلد و سيروه كما أرادوا بعدما سلبوا السلطة و كدسوا الإمتيازات و الممتلكات غير المشروعة. بهذه الطريقة تم تغيير الدستور بواسطة استفتاء زائف، مفروض قاطعه الناخبون و اتخذ بالرغم من ذلك مبررا لإلغاء مجلس الشيوخ و إنشاء مجالس جهوية لم تدرس بما فيه الكفاية كما تم تشويه و تدنيس رموز وطنية (النشيد و العلم) دون عقاب.

انتقاما من الشيوخ الذين أحبطوا، من خلال تصويت تاريخي، محاولة تعديل الدستور بطريقة غير قانونية، تم بالجرافات هدم مقر الغرفة العليا و هو مقر مشحون بالتاريخ و يتميز بهندسة معمارية أصيلية و استبدل بفضاء مبتذل سماه النظام البائد تعسفا “ساحة الحرية” و أعاد الشعب تسميته بسخرية” ساحة عر” (تلميحا إلى شخصية مشهورة فى بعض الخرافات الموريتانية ،وقد أصبح ذكرها من طرف نائب أحدوثة خلال جلسة للجمعية الوطنية لا تنسى) 

 النصوص المداسة

لقد تم دوس القوانين المنظمة للإدارة بنفس الطريقة التي كانت تداس بها جميع النصوص الأخرى. و هكذا فإن مختلف المؤسسات التي كان يفترض أن تظل مستقلة قد تحولت إلى قواقع فارغة بسبب الضغط عليها و استغلالها من خلال منح تسييرها لأشخاص تم اخيارهم على أساس خنوعهم و ولائهم للسلطة لا على أساس الكفاءة و النزاهة. على هذا المنوال، لم يكن فصل السلطات، و هو حجر الزاوية في الصرح الدستوري، موجودا إلا على الورق حيث كانت الحكومة و البرلمان و العدالة مزيجا من السلط لا فرق بينها، خاضعة كلها لرغبة و نزوات “الرئيس المؤسس” الذي كان بمثابة أخ أكبر على النمط الإستوائي، يتباهى بقدرته على خرق الدستور و على إعادة الكرة متى ما شاء.

لقد كانت الإدارة في حالة من الإضمحلال المتقدم لعدة أسباب منها اكتتاب الأشخاص على أسس عائلية و زبونية تعسفية دون مراعاة للمؤهلات إضافة إلى تثبيط همم الموظفين بسبب تردي ظروف العمل السيئة وحصر المسؤوليات على أقلية تتحكم في أعلى هرم السلطة. إن إدارة كهذه، مفككة، عديمة الخبرة و الوسائل، لا سيطرة لها على عملية صنع القرار و التسيير لا يمكن أن تكون أداة لحكم رشيد و لا وسيلة فعالة يلجأ إليها الناس لحل مشاكلهم المتراكمة. إضافة إلى ذلك، تم تهميش مؤسسة المعارضة عمدا و منعت من أن تلعب دورها الدستوري كقوة في وجه السلطة و كفاعل لا غنى عنه في الحياة السياسية الوطنية. أما الأحزاب السياسية المعارضة و النقابات و الحركات الإحتجاجية فقد تم قمعها بشكل منهجي في إطار خطة تهدف إلى استمرار التوتر و تسيير البلد من جانب واحد. لم تكن وسائل الإعلام الرسمية أفضل حال حيث منعتها السلطة من أن تتحول إلى وسائل إعلام تقدم خدمة عمومية طبقا لقانون الإتصال السمعي البصري. لهذا، ظلت “ابواقا لسيدها” تتنافس في الرداءة و التملق و الدعاية البالية و تحريف الحقائق. لقد كان الدعم المادي للصحافة المستقلة مجرد قطرة في محيط الاحتياجات الجمة و الاكراهات المفروضة على هذا القطاع الحساس الذي يبقى مصيره حبيس هشاشته و مدى قدرته على التكيف مع أوضاعه المزرية على حساب مهنيته و أدائه و استقلاله.

أماالبعد الإجتماعي و الإقتصادي المتدهور جدا فقد كان أيضا جانبا جليا من الأزمة متعددة الجوانب التي كانت البلاد تغرق حتما فيها خلال السنوات الأخيرة: البطالة المنتشرة، ارتفاع غلاء المعيشة، الفقر الذي اجتاح طبقات كبيرة من السكان، الظروف الصحية السيئة، انعدام الأمن المستمر، الخ.

لقد اقتصرت السياسات المطبقة لمواجهة هذه الأوضاع على مسكنات أو تدخلات نادرة لا تأثير لها على المشاكل و الإختلالات الهيكلية التي تعيق التنمية. لقد أضحى هنا إفلاس النظام التعليمي مثالا واضحا على التراجع الذي استقرت فيه البلاد حيث لم يجر أي تشخيص جدي لهذا القطاع الإستراتيجي جدا و لم يقترح أي إصلاح مناسب بالرغم من دوره الحاسم في التنمية الشاملة و الإندماج في عالم موحد يسيره اقتصاد المعرفة. إن الإخفاقات المتراكمة التي شهدها قطاع التهذيب الوطني تعكس واقعا مقلقا: نسبة النجاح في الباكلوريا لا تصل إلى 10% في حين بلغت نسبة التسرب من المدارس 30% إضافة إلى انخفاض حاد في المستوى و التقليل من أهمية المعلم و انعدام فرص تشغيل حملة الشهادات، الخ. في هذا المضمار، لم تشهد سنة 2016 التي أعلنت ديماغوجيا سنة للتعليم سوى” إنجاز” واحد تمثل في بيع أقدم مدارس العاصمة!

 الإرتجال و التسيير العشوائي

إن اضعاف الدولة و انهيار المنظومة التربوية و تعميق الفجوة الإجتماعية و الفساد و اندثار القيم و الفوضى المنتشرة على نطاق واسع قد فتحت الباب على مصراعيه أمام القبلية و الجهوية والطائفية و غيرها من قوى التباعد التي انتشرت كالفطائر على هذه التربة الخصبة لهذا النوع من المآسي التي تهدد البلد بالإنفجار.

لم يحظ  الإقتصاد الذي كان ضحية لهذا الإنهيار التام بسياسة منسجمة نابعة من رؤية واضحة للتنمية وفقا لواقع البلد و حاجياته و طموحاته و اقتصر نشاط الحكومة في هذا المجال على الإرتجال و التسيير العشوائي الناتجين عن الشعبوية و عدم الكفاءة. لقد أسفر هذ الضعف الهيكلي عن اقتصاد وطني متوجه كليا نحو الخارج، غير منتج لا يعتمد على أية مشاريع بنيوية و لا على صناعات تحويلية قادرة على تلبية الطلب الداخلي و خلق فرص للعمل، كما أن البلد لا ينتج أي شيئ و يستورد معظم حاجياته في شتى المجالات.

إن شركة “اسنيم” التي كانت مزدهرة بفضل حسن أدائها و تسييرها قد دفع بها إلى شفير الإفلاس بسبب سوء التسيير و تبديد مائات المليارات من الدولار التي جنتها خلال الطفرة التي شهدتها أسعار الحديد في الأسواق العالمية خلال الفترة ما بين 2010 و 2014. لقد داس النظام البائد جميع المعايير التي بنت عليها “سنيم” سمعتها من حيث الصرامة و المردودية و المسؤولية الإجتماعية و المساهمة الفعالة في ميزانية الدولة،د حتى أصبحت مجرد بقرة حلوب متروكة تحت رحمة جماعة في أعلى هرم السلطة معروفة بجشعها و شغفها بجمع المال. لقد تم نهب و تصفية مؤسسات أخرى مثل “صونمكس”  و ” أنير” في ظروف غامضة لإخفاء الأسباب الحقيقية لتصفيتها.

في المجالين المالي و المصرفي تم الضغط على بعض المصارف التي كانت رائدة في المال و الاقتصاد أو تمت تصفيتها تقريبا لأسباب لا علاقة لها بتسييرها و إنما بسبب الرغبة في تصفية الحسابات أو الثأر من أصحابها ( كان مصرف “GBM” مثالا جليا فى هذا المضمار) . في هذا الإطار،ظهر فجأة جيل عفوي من المصارف الجديدة يعتقد بعض المتخصصين أنها ليست سوى و سائل لتبييض الأموال غير المشروعة و الدخول في منافسة غير قانونية مع مصارف محلية معروفة بمصداقيتها و جدارتها الإئتمانية.

في ظل هذه الفوضى العارمة، لم يجد نظام العشرية الضائعة أفضل من ممارسة ضغوط جبائية لا تطاق على المواطنين و الفاعلين الإقتصاديين الذين لم ينالوا رضاه،كل هذا من أجل امتصاص عجز الميزانية

. نتيجة لهذه السياسة، ظلت الدولة تئن تحت وطأة ديون خارجية تزيد على 100% من الناتج الداخلي الخام على الرغم من المكاسب المالية التي جنتها الدولة من خلال ارتفاع أسعار المواد الأولية  و خاصة الحديد .و لم يبق من هذه الثروة الضخمة التي حصل عليها البلد في السنوات الأخيرة من التمويلات الخارجية  سوى “فيلة بيضاء” و عدد قليل من المشاريع الوهمية و بعض البنى التحتية غير المدروسة،سيئة التصميم أو لم يكتمل إنجازها، إضافة إلى ثروات طائلة جمعها أفراد من دائرة النفوذ منهم أغنياء جدد مبتذلون، ملامحهم توحي بالقساوة مقربون من مافيا السلطة أو زبناء لها.

على الصعيد الدولي، لم تتألق العشرية الجهنمية لا من خلال انسجامها العقائدي و لا من خلال أدائها نظرا إلى انعدام الخبرة و إلى الإرتجال و غياب المهنية و القدرة على التحليل الضروريين في مجال شديد الحساسية. إن السياسة الخارجية ليست إلا امتدادا للسياسة الداخلية بعيوبها و أخطائها وتخبطها خاصة فيما يتعلق بالتعاون و الجاذبية و صورة البلد و اشعاعه.إن التطبيل المبالغ فيه حول السياسة الخارجية للنظام البائد لم يكن سوى تزمير حول نشاطات لا تشكل أحداثا مهمة كرئاسة الإتحاد الإفريقي أو الجامعة العربية أو إجتماعات عادية في هذا أو ذاك الإطار أو الوساطة الغامضة و المتأخرة في الأزمة الغامبية تظهر الطابع الفولكلوري لهذه الدبلوماسية. إن انعدام الخبرة في هذا المجال يذكر بخرافة  ” الضفدع الذي يريد أن يكون بحجم الثور”: “كل أمير صغير لديه سفراء”…نعرف ما آل إليه أمر الضفدع المسكين كما نعرف أيضا صورة بلد في مؤخرة الركب حسب جميع التصنيفات الدولية  تقريبا في التنمية و الإستدامة (التعليم، و الصحة، والأمن، الخ.).

إن هذا الجرد غير الشامل يعطي فكرة يائسة  عن الوضع الموروث عن نظام العقد الماضي غداة التناوب الذي قضى عليه كما يبرز حجم التحديات التي ينبغي للقادة الجدد أن يواجهوها من أجل إعادة القطار إلى سكة الأمل و التغيير.من المؤكد أن التقرير المنتظر من لجنة التحقيق البرلمانية سيلقى الضوء على مدى وخطورة الفضائح الاقتصادية والمالية والجرائم التي ارتكبت خلال فترة الحكم السابق و التي لا يستوعبها العقل.لذلك، فقد أصبح من الضروري والمفيد أن نذيب “جبل جليد العار” من خلال فضح الجرائم التي عانتها البلاد منذ فترة طويلة و أن نضع حدا نهائيا لثقافة الإفلات من العقاب.

 نواكشوط ، 22 يوليو 2020.

هيبتنا ولد سيدي هيبه