إعلان

تابعنا على فيسبوك

موريتانيا وفرص الدبلوماسية الناعمة الضائعة

أربعاء, 23/09/2020 - 16:12

"الدبلوماسية الناعمة" مصطلح غزى الإعلام العالمي، خلال مرحلة ما بعد ارهاصات تراجع مبشرات العولمة، التي هي اختصار العصر الأمريكي، بما يحمل من قيم هوليود، ومؤشرات وول ستريت، وجبروت البنتاغون، "انحصار تلك اللحظة" لاحت تباشيره مع خروج روسيا من ركام تراكمات الإمبراطورية العتيدة، وإعادة ترميميها على يد رجل المباحث (بوتين)، وتمدد التنين الأصفر(الصين) بصمت، - داخل القارة الأغنى (افريقيا) "الفقيرة"-، وبدون اكراهات سياسية للاستثمار، وتمكن نمور آسيا من صياغة برمجيات تجنبهم أخطاء جموح  طفرة الإنجازات التي أجهضتها أزمة التسعينات، وقضايا دولية أخرى لم تعد معها الدبلوماسية الصلبة تجلب منافع أكثر من الخسائر.
موريتانيا المحيط وعداوات  التاريخ الحديث.
موريتانيا والسنغال، كانتا ضمن مجموعة مونروفيا ، وكانت مالي والمغرب ضمن مجموعة الدار البيضاء، ومع ذلك ظلت النخب السنغالية تكن عداوة متجذرة جدا لموريتانيا، ، تبدو أزمة حروب "انجنبت امبودج" في ثلاثينات القرن (19) -بين محمد الحبيب، وفيدرب، والتي بانتصار الأخير فيها فقد البيظان مستعمرة الوالو- ما تزل أحداث تلك الحرب تشكل جرحا نازفا في وجدان النخب السنغالية، معبرة عنها كلما سنحت الفرصة، مجاهرة بأن الضفة اليمنى للنهر- التي فرضتها فرنسا حدودا قاضمة بها أراضي بيظانية- جزءا من ترابها.
موريتانيا والخلفية الدينية المنسية.
لعب التصوف البيظاني الدور الأكبر إن لم يكن الأوحد في تخلي غالبية جيرانهم السود عن الوثنية، حيث كان المشايخ دعاة مهرة صادقين تحركهم العقيدة وليست الغنيمة المنفرة من الإسلام، انساحوا في أدغال جنوب الصحراء الكبرى سواحاً متعبدين، وتجارا متبضعين ، فأسلمت شعوب وفئام وقادة وأمراء أفارقه بفضل جهودهم وتسامحهم، فأصبح الرجل البيظاني قدوة عند الزنوج، ومربٍ روحي حسب وثائق الغزاة الفرنسيين.
المغرب يستغل غياب التدين البيظاني.
لملء الفراغ الذي خلفه تراجع حضور التدين البيظاني ما بعد اكراهات قيام الدولة الحديثة، انتهج المغرب  الدبلوماسية الناعمة مع السنغال بالخصوص، وبانتقائية- مثلت ثغرة كبيرة في أسلوبه- وذلك باعتماده على الطريقة التجانية الإبراهيمية، التي فك مؤسسها الارتباط بالسند البيظاني  الحافظي الذي أخذ عن عبد الله بن الحاج المشري، ليجدد عن  طريق الشيخ السكيرج المغربي فأصبح  ولائه الروحي للحضرة الفاسية "فظعن" عن الحضرة البيظانية، فحظيت طريقته "بتعميد" العرش ومكن لها، ومهد لها طرق أبواب مكاتب زعماء العالم،  وتبناها إفريقيا ممثلة له في المجال التجاني، وفي المجال الإسلامي ممثلة للإشعاع الروحي السلطاني، واستغلها في الداخل السنغالي  كورقة ضاغطة وضامنة لولاء من يحكم السنغال وتبنيه وجهة نظر المغرب (ولم يشرك معها طريقة أخرى).
الجزائر ولعبة التصوف الجديدة.
الجزائر عدوة المغرب ومنافستها في المنطقة تأخرت كثيراً عن لعبة الدبلوماسية الناعمة، فعند ظهورها على مسرح أحداث المنطقة كانت خارجة من ركام (130 سنة) من الاحتلال البشع، فانشغلت بتضميد جراح شعب فقد مليونا ونصفا من الشهداء ، واكراهات التحديث، ومواجهة مؤامرات فرنسا المطعونة في الصميم بخنجر الثورة، إضافة إلى اولوية دعم حركات التحرر خاصة قضية الأمة فلسطين، والثمن الباهظ الذي دفعت لتلك المواقف، تأخرت الجزائر عن لعب ورقة الدبلوماسية الناعمة برتوش دينية كما فعلت المغرب، إلى غاية منتصف تسعينات القرن الماضي، بعد تمكنها مع مشروع الوئام الوطني من اجهاض خطة التدمير التي واجهتها.
 بدأت الجزائر استغلال الدبلوماسية الناعمة في المحيط الافريقي، كوجه من وجوه التنافس السرمدي مع المغربي ، فاستخدمت سلاح الطرق الصوفية ، وأثارت الدولة العميقة إشكالية انتماء الشيخ التجاني الجيني لولاية تلمسان التي هاجر منها مقتفيا أثر صيته المنتشر حتى فاس التي صارت مثواه الأخير، كان واضحاً من تحرك الجزائر أن لسان حالها يريد أن يُذكر بأن المشيخة المالية التيجانية الأشهر والأكثر زخما، (الحموية) تابعة للجناح الجزائري من التيجانية، فمربي مؤسس الحموية الروحي ليس سوى الشيخ سيدي محمد بن عبد الله الأخضر، مبعوث الشيخ سيدي الطاهر بوطيبة التلمساني، تحرك أشعر المغرب بأنه قد يُشارك في منهجه "الشعبي" ، فزار الملك جمهورية مالي زيارة شبه مخصصة للمشايخ، مشفوعة بفتح مدارس المغرب لتكوين دعاة وائمة مساجد سيدعون في المستقبل على منابرهم للملك بالتمكين والظفر وسيصفونه بحام العقيدة، ولما وُعك الشيخ محمدو زعيم الطريقة الحموية  عُولج في المغرب على نفقة القصر.
 موريتانيا والفرص الضائعة.
هذه الدبلوماسية ذات النتائج الكبيرة والتكاليف القليلة، لا تحظى باهتمام موريتانيا، وهي المالكة لكل الأوراق في المنطقة الملتهبة والمعادية ، ففي السنغال العدو المتربص، ومصدر الازعاج للنظم الموريتانية المتعاقبة، فإن النفوذ الروحي المسيطر للطريقة القادرية، مرجعيته المتحكمة والمتنفذة هي مشيخة آل الشيخ سعدبوه متزعمة قادرية غرب إفريقيا، والتجانية الأكثر زخما وحيوية في جمهورية مالي وجوارها تتزعمها مشيخة آل الشيخ حماه الله.
فلو ابتعدت الدبلوماسية الموريتانية عن الأسلوب التقليدي، واعطت قدرا من الاهتمام لمشايخها بحيث يلعبون أدواراً عنها بعيداً عن الرسميات، في ملفات يعتبر أي تعاطٍ رسمي معها خرقا للأعراف الدولية واتفاقات فيينا، وما يستتبع ذلك من توترات مع الجوار لوجدت لنفسها موطأ قدم راسخ مشكلا خناجر في الخواصر الرخوة لتلك الدولة، قابلة للتفعيل عند الضرورة، دون أي احراج دبلوماسي على المستوى الرسمي.
 فالحضرة الحموية مثلا لعبت الدور الأكبر في ترتيب البيت السياسي الداخلي في مالي بعد انقلاب 2012م، والاحداث الأخيرة التي أدت لعزل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا ، كان حضور تلك الحضرة فيها معلنا، ويمكن القول إن أي زعيم يناصبها العداء يكون وضعه الانتخابي صعبا ، ففي مواسم الانتخابات تصبح مدينة انيور العاصمة الروحية للطريقة الحموية التيجانية محجة للسياسيين الماليين.
كما أن  بمقدور زعماء القادرية منع أي معادٍ لموريتانيا من الفوز بمقعد انتخابي في العديد من الدوائر الانتخابية في السنغال، خاصة في البرلمان وبلديات المدن الكبرى ، يجد ذلك مصداقيته في آلاف الحجاج الذين يتوافدون سنويا في العشر الأواخر من رمضان لزيارة مدينة ( انيمجاط) مركز زعامة الطريقة القادرية في غرب افريقيا ، وحيث قبر الشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضل ناشر الطريقة.
 في هذا الفضاء الذي اصبح مجال تنافس بين دول المنطقة وفرنسا، وفي الوقت الذي أصبحت الكثير من الدول تستغل بدائل جديدة في العمل الدبلوماسي لتحقيق مصالح أكثر وبتكاليف أقل ، فإن موريتانيا التي تمتلك الكثير من الأوراق التي تستطيع استغلالها  في مجال الدبلوماسية الناعمة أو الموازية، تظل كل فرصها ضائعة.

سيدي محمد ولد جعفر