وقّع أمير قطر الشيخ تميم آل ثاني خلال زيارته إلى تركيا الأسبوع الماضي على سلسلة من الاتفاقيات التي أثارت نقاشاً واسعاً في الشّارع التركي، السياسيّ منه والإعلاميّ والشّعبيّ، فقد اشترت قطر بموجب هذه الاتفاقيّات 10% من بورصة إسطنبول بقيمة 200 مليون دولار، و42% من مجمع أستينيا التجاري، وهو قريب من البورصة، ويطلّ على الشارع الرئيسي الّذي تمَّت تسميته قبل 5 سنوات "شارع قطر"، ربما استعداداً لهذه الأيام!
لقد بات واضحاً أنَّ قطر ستشتري كل ما هو قريب من هذا الشارع أو مجاور له، كما هو الحال في خليج القرن الذهبي الّذي اشترت قطر أيضاً شركة استثماراته، كما اشترت ميناء إنطاليا جنوب البلاد. وتحدثت المعارضة أيضاً عن مساعي الرئيس إردوغان الّذي قال "ليس للنقود دين أو لون"، لبيع مؤسَّسة المياه الوطنية المسؤولة عن جميع السدود والبحيرات والأنهار لقطر.
وقد سبق أن اشترت قطر أيضاً خلال السنوات الأخيرة العديد من مؤسَّسات القطاع العام، ومنها المصارف والموانئ ومؤسَّسات إعلامية تابعة للصندوق السيادي الذي يترأسه الرئيس إردوغان، وكان صهره برات ألبيراق نائباً له قبل أن يستقيل أو يقال من منصبه كوزير للخزانة والمالية.
وأثار بيع مصنع الدبابات لقطر قبل عامين نقاشاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية والإعلامية، بعد أن اتهمت المعارضة الرئيس إردوغان "بالخيانة الوطنية، لأنه باع قطاعاً استراتيجياً لدولة أجنبية". واعتبر زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو "عملية البيع هذه رداً للجميل، بعد أن تبرع أمير قطر الشيخ تميم بطائرته الخاصة، وهي بقيمة 500 مليون دولار، للرئيس إردوغان".
وتحدَّثت المعلومات الصّحافية قبل أسابيع عن شراء والدة الشيخ تميم الشيخة موزة وشقيقتها مساحات واسعة من الأراضي التي تطلّ على قناة إسطنبول، التي سيتمّ شقّها بين البحر الأسود وبحر مرمرة بشكل موازٍ لمضيق البوسفور. وقدّرت المعارضة مساحات الأراضي التي اشترتها قطر في مختلف أنحاء تركيا بحوالى 22 ألف كم مربع، وهو ضعف مساحة قطر.
ولم تهمل المعارضة الحديث عن مضمون التحالف القطري - التركي وأهدافه، إذ قالت وكالة الأناضول الرسمية "إن إردوغان والشيخ تميم التقيا 28 مرة خلال 70 شهراً"، يُضاف إليها العشرات من الاتصالات الهاتفية بين الزعيمين والتنسيق معاً في كل الأمور.
وأشار الجنرال المتقاعد أحمد ياووز إلى "العلاقة الحميمة بين أنقرة والدوحة اعتباراً من العام 2004، وهو العام الذي أعلن فيه عن مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وقال: "بعد ذلك العام، سعت واشنطن والعواصم الغربية إلى تسويق تجربة العدالة والتنمية في دولة علمانية ديموقراطية مسلمة إلى الدول العربية، وذلك بتمويل قطري. وكان ذلك واضحاً مع الربيع العربي، إذ كانت قطر وتركيا لاعبين أساسيين في هذا الربيع، وما زالتا كذلك في سوريا وليبيا واليمن والصومال ومناطق أخرى، الرجال من تركيا والتمويل من قطر".
وأشار أوتكو جاكير أوزار، عضو البرلمان عن حزب الشعب الجمهوري، "إلى التحالف العقائدي الإخواني بين إردوغان وقطر"، وقال: "بعد انقلاب السيسي في مصر، ودعم السعودية والإمارات للانقلاب، وبالتالي عداء الدول الثلاث للدوحة، لم يتأخَّر الرئيس إردوغان في إرسال الجيش التركي إلى قطر لحماية آل ثاني من أي عدوان سعودي محتمل. وقد زاد ذلك من حجم التّحالف ومضمونه الاستراتيجي بين الدولتين، وبرضا أميركي، إذ تمتلك أميركا قاعدتين مهمتين جداً في قطر، وتدير منها كلّ عملياتها الحربية في المنطقة. ولأميركا أيضاً 12 قاعدة في تركيا وقواعد أخرى في جميع دول المنطقة التي تحيط بإيران وسوريا".
ولم يمنع كلّ هذا الكلام الرئيس إردوغان والإعلام الموالي له من مهاجمة أميركا بين الحين والحين، بحجّة دعمها للكرد في سوريا، فقد هدَّد الرئيس ترامب الرئيس إردوغان وتوعّده عبر "تويتر" في الرسالة الشخصية المهينة التي قال له فيها "إنه سيدمّر اقتصاد تركيا إذا دخل الجيش التركي شرق الفرات"، لكنّه عاد وسمح بذلك في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، لموازنة الدور الروسي في سوريا.
ولم تمنع هذه التناقضات الدوحة من اتخاذ مواقف ازدواجية في العلاقة مع واشنطن، فوقَّعت معها على اتفاقيات جديدة لتطوير القواعد الأميركية، ثم استضافت اللقاءات السرية والعلنية بين طالبان والجانب الأميركي، للتوصّل إلى اتفاق شامل في أفغانستان، مع استمرار قناة "الجزيرة" في نهجها "المعادي للإمبريالية والصهيونية" منذ انطلاقها في العام 1996.
وتهاجم قناة "الجزيرة" كلاً من السعودية والإمارات في اليمن، وتتضامن مع تركيا ضدهما في ليبيا، وتستمر في دعم المعارضة السورية التي أصبحت تحت الوصاية التركية فقط، بعد أن تخلت عنها باقي الدول العربية والأجنبية.
ومهما كان الهدف من انفتاح آل ثاني على تركيا (83 مليوناً)، فالجميع يعرف أن حجم هذا الانفتاح الاقتصادي والمالي والسياسي سيضمن للدوحة الصمود في وجه "الأطماع السعودية والإماراتية"، ما دامت قطر بعدد سكانها الذي لا يتجاوز 350 ألفاً محاصرة من هذه الدول المعادية، ومعها البحرين وسلطنة عمان، مع الإشارة إلى أن آل ثاني، وأصلهم من نجد، ينتمون إلى الوهابيين، كآل سعود، والأخيرون أعداء تركيا عثمانياً وجمهورياً والآن إخوانياً، بعد أن بايع الإخوان الرئيس إردوغان خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي"، فيما اعتبرت الرياض الإخوان تنظيماً إرهابياً بعد انقلاب السيسي في 3 تموز/يوليو 2013، وكل ذلك بعلم ورضا وضوء أخضر أميركي!
وتشير المعارضة إلى العلاقة المالية الشخصية بين الرئيس إردوغان وآل ثاني، الّذين كان يستنجد بهم في كل مرة لمساعدته في تجاوز الأزمات المالية المتتالية. وقد قامت الدوحة في كل مرة بضخّ المليارات من الدولارات في الأسواق التركية التي تعاني أزمة الديون الخارجية التي زادت على 460 مليار دولار، في الوقت الذي ترفض المؤسسات المالية العالمية والأميركية والأوروبية مساعدة أنقرة لتجاوز هذه الأزمة، بسبب الاتهامات الموجهة إلى إردوغان في ما يتعلق "بقضائه على الديموقراطية وإقامة نظام استبدادي وسيطرته على الجهاز القضائي"، وهو ما دفع الرساميل الأجنبية، ولا زال، إلى الهرب من تركيا، على الرغم من الأرباح التي تحققها فيها، فقد زاد حجم الاستثمارات الأجنبية في تركيا على 1,5 تريليون دولار، إذ يسيطر الرأسمال الأجنبي على 60% من تعاملات بورصة إسطنبول ونسبة متساوية من رأسمال المصارف التي تشكو من مضايقات الدولة التي أثبتت فشلها في معالجة الأزمة المالية.
هذا الأمر يؤكّده زعيم حزب المستقبل ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، الذي يتهم إردوغان باستمرار "بالجهل والاستبداد والفساد"، من دون أن يقول أي شيء عن علاقته بقطر، فقد كان داوود أوغلو البادئ بهذه العلاقة مع حمد آل ثاني ورئيس الوزراء حمد بن جاسم، الذي اعترف في تشرين الأول/أكتوبر 2017 بأن "قطر وتركيا، ومعهما السعودية وأميركا وفرنسا وغيرها، كانت تجري معاً وراء الصيد (الرئيس الأسد)، إلا أنه فلت منهم".
ولم يمنع ذلك الرئيس إردوغان والشيخ تميم من الاستمرار في هذا النهج، وهو سرّ التحالف بينهما، ليس في سوريا وليبيا والصومال وأماكن أخرى فقط، بل في ما يتعلّق بتقرير مصير الكثير من القضايا الإقليمية والدولية للسنوات القادمة أيضاً، وإلا ليس هناك تفسير منطقي لمحاولات دولة صغيرة بسكانها ومساحتها كقطر أداء دور أكبر من حجمها سياسياً وعسكرياً، وهو ما تسعى إلى تعويضه بالتحالف مع إردوغان، وريث الدولة العثمانية الَّتي تمرَّد عليها آل ثاني قبل 140 عاماً، وهم الآن يرون فيه حامياً لهم وضامناً لصمودهم أمام "العدو العشائري التقليدي" آل سعود.
وليس هناك أيّ تفسير منطقيّ لاستثمارات آل ثاني بهذا الكمّ والكيف في تركيا، أو أي مبرر لتمويل قطر تحركات الرئيس إردوغان العقائدية الإخوانية بأبعادها الاستراتيجية، والتي ليس لقطر أي مصلحة فيها!
وأخيراً، يتذكر الجميع أن قطر وتركيا كانتا قبل 16 عاماً من أقرب المقربين إلى الرئيس الأسد، ثم تحالفتا في "الربيع العربي" مع السعودية والإمارات والبحرين وعواصم الإمبريالية ضد سوريا. وقد أثبتت السنوات العشر الأخيرة أنَّ المستفيد الوحيد من كلّ ما حدث فيها، وفي المنطقة عموماً، هو "إسرائيل" فقط، بشكل مباشر أو غير مباشر، وآخر مثال على ذلك هرولة الأنظمة العربية نحو التطبيع مع تل أبيب.
وجاءت المعلومات الصّحافية التي تحدَّثت عن لقاءات سرية بين مسؤولي الاستخبارات التركيّة ونظرائهم الإسرائيليين ومساعي إدارة ترامب لتحقيق المصالحة بين قطر والسعودية، لتطرح العديد من التساؤلات، وأهمها:
أين هو التحالف التركي - القطري من كلّ هذه القصص وسيناريوهاتها المحتملة التي ستحدد مصير السياسة التركية ومستقبلها بعد تولي بايدن الحكم، والذي سيسعى آل ثاني لمصالحته مع الرئيس إردوغان؟
الميادين نت