الآن وقد أصبح العرب في قعر سلم الاهتمام العالمي ، فإن الصحوة قد أصبحت قضية مصيرية لمنع الموت والاندثار ، وأصبح جهد إعادة بعث الأمة واجباً وفرضاً على كل عربي من خلال التعامل مع التحديات بجدية وبنظرة شمولية .
لقد دفع الضعف العربي العام بمفاهيم بالية وسلبية مثل القدرية والاتكالية كتعويض عن حالة الإفلاس التي تعيشها الجماهير العربية . فهذه الجماهير التي لطمت الخدود على ما فعلته إدارة ترمب بالقضية الفلسطينية عمموماً وبالقدس خصوصاً ، هي نفس الجماهير التي تنتظر الآن بقدرية أن يخسر ترمب الانتخابات أملاً بأن تعود الأمور كما كانت ، وهي نفس الجماهير التي لا تريد بذل أي جهد أو تضحية لتغيير واقعها السيء من الداخل كمدخل نحو التغيير .
سواء كسب ترمب الانتخابات أو خسرها فإن الأمور والسياسات المتعلقة بالعرب سوف تستمر و لن تعود الى ما كانت عليه سابقاً . فالعالم العربي قد خسر نفسه أولاً وهو بالتالي فقد نفوذه في العالم من خلال تحوله الى جثة سياسية خاضعة لأوامر الآخرين . والشئ الذي قد يحصل فيما لو خسر ترمب قد لا يتجاوز بعض البطئ في تنفيذ نفس السياسات تقريباً أو في صبغ ماهو قادم منها بألوان زاهية تخفي بشاعتها لا أكثر ولا أقل .
مرة أخرى ، لن يحصل أي تغيير في السياسة التي وضعها ترمب للشرق الأوسط خصوصاً ما يتعلق منها بالعرب وبالقضية الفلسطينية ، علماً أن معظم الحكام العرب يتعاملون مع أمريكا باعتبارها السيد المطاع بالإضافة الى أن بعضهم غير مؤهلين أصلاً لقيادة دولهم وشعوبهم ناهيك عن مقاومة الرغبات الأمريكية كما ثبت حتى الآن .
لا جدوى من محاولة بعض الأنظمة التي تسعى الى التطبيع المجاني مع اسرائيل التدثر بالعباءة الفلسطينية ، إذ من الظلم استعمال القضية الفلسطينييه كعذر مُحِلّْ لارتكاب معصية التطبيع المجاني مع اسرائيل . إن إعادة تعريف أسس الصراع مع العدو الاسرائيلي قد أصبح الآن ضرورة بعد أن تحول ذلك العدو إما الى صديق أو إلى حليف لعدد متزايد من الأنظمة العربية دون المطالبة بإستعادة أي من الحقوق الفلسطينية على الاطلاق . وهذا بحد ذاته سابقة خطيرة قد يفسرها البعض بقبول العرب بمبدأ " جواز احتلال أراضي الغير بالقوة " ، مما يعني أن الاحتلال وضم أراضٍ عربية بالقوة أصبح أمراً مقبولأ عربياً . إن إنهيار الموقف العربي تجاه اسرائيل لن يكون محصوراً في آثاره بالقضية الفلسطينية وفلسطين والفلسطينيين ، بل سيمتد الى كافة أرجاء العالم العربي والذي سوف يتم إخضاعه تدريجياً لنفوذ الدولة الاسرائيلية المتفوقة عسكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً . إخضاع العالم العربي للريادة والقيادة الاسرائيلية في مختلف المجالات وليس بالضرورة احتلال أراضيها هو عنوان المرحلة المقبلة .
وما يتبجح به بعض العرب الآن من فوائد وعوائد التطبيع مع اسرائيل عليهم وعلى شعوبهم هي كمن ينتشي من أول جرعة من المخدرات ثم يصبح عبداً لها بعد ذلك .
الخطورة تكمن فيما لو استمر مسار التطبيع العربي دون أي مقاومة حقيقية من الداخل الجماهيري العربي لذلك المسار ، عندها سوف ينحدر مفهوم مجانية التطبيع الى درجة إستجداء التطبيع وتصبح اسرائيل هي المتفضلة على العرب بقبولها للتطبيع ، وقد تطلب ثمناً متزايداً لذلك .
وفي هذا السياق من المهم إستراتيجياً أن تشعر اسرائيل طوال الوقت أن مسار التطبيع المجاني هو أمر مرفوض من قبل الشعوب العربية وأن عليها أن تدفع ثمناً حقيقياً لذلك من خلال احترام حقوق الشعب الفلسطيني . وهذا يتطلب وعياً عربياً بأهمية دور الجماهير في حماية المصالح العربية عوضاً عن إرغامهم على تأييد المسار التطبيعي المجاني لحكامهم .
التطبيع المجاني مع إسرائيل سيؤدي أيضاً وبالإضافة الى اختراق السيادة الوطنية العربية على الأراضي العربية . فإستعمال أراضي بعض الدول العربية مثل الأردن والعراق ودول الخليج والسعودية وغيرها لمرور وتمرير بعض المشاريع الإقليمية المرافقة لمرحلة التطبيع مثل شبكة انابيب الغاز وربما النفط والمياه في مرحلة لاحقة ، وكذلك شبكة السكك الحديدية التي ستربط عمق العالم العربي بميناء حيفا و الكيان الاسرائيلي بشكل عام ، يعني أن كل هذه المشاريع وغيرها سوف تحظى كمشاريع اقليمية بحماية خاصة تفوق حقوق السيادة الوطنية لدول العبور . واسرائيل ستكون في هذه الحالة هي اللاصق الذي يربط كل مشروع من هذه المشاريع معاً . فالعرب ، كما هو معروف ، فشلوا في القيام بمشاريع اقليمية استراتيجية حقيقية على مدى العقود الماضية لعدم ثقتهم ببعضهم البعض ، وما سيجمعهم معاً الآن هو اسرائيل ومصالحها المرتبطة بشكل واضح بتلك المشاريع .
المكتوب يُفهم من عنوانه ، وما حصلت عليه اسرائيل خلال شهر واحد من حق لمواطنيها في زيارة دولة عربية مطبَّعة دون فيزا ، الأمر الذي لم يستطع معظم العرب الحصول عليه ، يعطي مؤشراً خطيراً على المدى الذي يمكن أن تصل اليه الأمور في المستقبل القريب . والحديث هنا لايهدف الى إتهام أحد بقدرما يهدف إلى التحذير من خطورة ما هو قادم ومن التسلل الاسرائيلي الى الداخل العربي ومن ثم العمق العربي كاملاً و حتمية الاختراق الأمني عندما يسمح الجميع للإسرائيليين بحرية العبور إلى بلادهم دون تأشيرة .
إن ثقة الحكام العرب بإسرائيل سوف تكون على ما يبدو اكثر من ثقتهم ببعضهم البعض أو حتى بشعوبهم . واسرائيل سوف تكون بالنتيجة الحَكَم بينهم في خلافاتهم والحامي لهم من أعدائهم والى الحد الذي قد يجعل وجودهم السياسي واستمراريتهم مرتبطاً برضى اسرائيل عليهم .
إن نقطة الأساس والارتكاز في مشروع اسرائيل الكبرى تتطلب أن تتحول اسرائيل من عدو الى حليف مما سوف يسمح لها أن تصبح ملاذاً لنزوات وملذات أغنياء العرب ومسؤوليهم وما قد ينتج عن ذلك من مزيد من الفساد والافساد مما قد يؤدي الى تغلغل جواسيس اسرائيل قي عمق النفس العربية وفي عقول اؤلئك المتنفذين وما لديهم من معلومات وأسرار ، وبما يسمح بإبتزازهم والسيطرة عليهم . فإسرائيل لن تدخر وسعاً في استعمال كل ما لديها من أدوات للسيطرة على العرب وعالمهم وثرواتهم وحكامهم الى أن تصبح هي القائد الفعلي للعالم العربي . وما حصل ويحصل لزعماء السلطة الفلسطينية في تعامل الاسرائيليين معهم هو مثال متواضع على ما ينتظر الحكام العرب السائرين في نفس مسار التطبيع .
إن قيام بعض الدول العربية باستبدال أدوارها في معادلة الصراع العربي –الاسرائيلي لن يدفع ثمنها الطرفان كما يفترض ذلك منطق الأمور ، بل سيدفع ثمنها الطرف العربي فقط ، أما الطرف الاسرائيلي فسيقبض الثمن وهنا تكمن خطورة الموقف الأمريكي الذي يدفع بهذا الاتجاه طوال الوقت . والأردن الاقرب الى بؤرة الصراع هو المرشح الاول لتحمل تبعات ضعف الموقف العربي . والتصدي لذلك لا يكون من خلال المزيد من التنازل والخضوع أو التسابق العربي الى ذلك ، بل من خلال العمل على لململة الصف العربي وإعادة بناء موقف عربي يسعى الى حماية مصالح العرب والتأكيد على أن حماية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني هي خط الدفاع الأول عن مصالح العرب .
د. لبيب قمحاوي