إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي: " يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح11

أحد, 28/02/2021 - 00:06

 عندما أرسل لي ابن القذافي سيف مبعوثا

حدث هذا كما يحدث في رواية من روايات جون لو كاريه. تناولتٌ طعام العشاء في وقتٍ مُتأخُر في مطعم سان بول في ضاحية كولومب، كنت وحدي على الطاولة الصغيرة المجاورة للمدفأة في أقصى قاعة الطعام حيث كان مونتان يتناول عشاءه. كان النادل قد سجّل طلبي للطبق. ولكنّه سّرعان ما عاد إيّ يقول لي إنني مطلوب على الهاتف. تُرى من يعرف بوجودي هنا؟ ومّن يُمكن أن يتصل بي في هذه الساعة وعلى هذا الرقم؟ كان على الطرف الآخر للخط صوتٌ مجهول يُعبر بإنجليزية لا بأس بها: لا أهمية لاسمي. أنا في موناكو. وأود أن أراك أن أتحدّث معك عن ليبيا. هل تستطيع المجيء؟! أجبتّه أن مجيئي هكذا إلى موناكو غير وارد لكنْ إن أراد أن يأتيني إلى هنا فلِمَ لا. «ردّ الصوت: لا بأس أنا قادم». وبعد 45 دقيقة كان عندي. هو رجّل بدين. قصير وسمين. ضخامة كتفيه تربك هيئتّه. حاجباه كثيفان شديدا السّواد. شكله يُشبه شكل الخائن في المسرحيات. أنا آسف. فهو كذلك حقاً..

نحن في شّقَة عائلة «رو» بمنجىّ من النظرات والآذان. طلبت من رفيقي القديم فرانسوا الشاهد على كثير من فصول حياتي منذ ثلاثين عاما بأن يُقَدّم لي خدمة بحضور اللقاء. قلتُ له: لا أعرف من يكون هذا الرجل. لا أعرف ماذا يُريد هذا الرجل منّي ولا ماذا أتى يقول لي، غير أني أعرف ماذا سأقول له؛ ولا أسمع كلامي مُشْوٌّهاً في يوم أو في آخر.. تأكٌدتُ عند وصوله أنه لا يحمل في جيبه جهاز التسجيل. ثم سألته عن اسمه الذي كتبه لي آسفاً على رزمة أوراق وضعها فرانسوا أمامنا. دعوتّه للجلوس، وبدأت: هل أُقدّم لك شيئاً تشربه...

-لاء طبعاً. أنت مُستعجل. وأنا أيضاً. هيا بنا إلى الجوهري.

"صوّته غريب" فهو حيناً مُتردّد وحاسم حيناً آخر كأنّه لا يعرف أيّ دور يجب أن يأخذ.

اتّصلت بسيف...

انتفضتٌ قائلا: متى؟

اليوم قبل أن أتصل بك.

حسنا وماذا بعد؟

قال: "سفْح كثيرٌ من الدم؛ وقد سقط كثيرٌ من الأبرياء ضحيّة هذا الصراع بين الإخوة..."

أي صراع بين الإخوة؟ فلديكم: من جهة شعب لا يُريد أن يموت ومن الجهة الأخرى. عائلة القذّافي التي تقصف الناس بالأسلحة الثقيلة والتي ...

"لا ينبغي أن تقول عائلة القذّافي: فالأب والأبناء شيئان مختلفان سأحكي له قصة.

كنت شاهد عيان عليها منذ سنة في ملهى عاصمة أوروبية قال صديق لسيف الإسلام: "أبوك مجنون..." وكرر ذلك وهو يضع سُبّابته على صدغه الأيمن» في إشارة إلى ذاك الذي فقد عقله.. قذف في وجهه الكلمة هكذا: أبوك (مجنون) مجنون تماماً. هل تعرف كيف تصرف سيف؟ لو قلنا هذا عن واحد من إخوته أو عن أخته...

هذه المرّة قام بإشارة إخراج مُسدّس من جيبه وتصويبه.

لكنّ هنا لا. لم يفعل شيئا ولم يقل شيئاً  كما لو أن هذا لم يصدِمه أبداً. ضحك فقط.

قلت بتحفظ: ربما لكنْ مع ذلك الابن هو الذي رُبما قال وارتكب الأشياء الأكثر إرهاباً. تذكر يوم 20 شباط/ فبراير حيث هدّد بإغراق بنغازي في أنهارٍ من الدم.

أرجع الرجل كرسيّه بضجّة كأنني قلت الشيء الذي لا يُريد سماعّه؛ وأنه يُفضل الانصراف. لكنْ لا، فهو يُحاكي فقط حديثاً أجراه مع سيف.

هذا بالضبط ما قلته له! خطابك خرا، هذه هي الكلمة التي استخدمتها...أنت مُعْطَّى بshit...قلت له هذا وجهاً لوجه ثم توجه إلي من جديد: "لأنني لست مع هذا النظام. ويجب أن تفهم أنني من أجل الديمقراطية وحقوق  الإنسان والحياة الكريمة. إذآ لا يُمكن أن أكون مع هذا النظام الذي يُريق الدم. أنا أظنّ ببساطة أنَّ النظام لا ينبغي أن يكون مُعانداً، وإلآّ فالشعب هو الذي سيدفع الثمن."

 - وإذاً؟

- إذاً سيف عنده اقتراح ويجب علي أن أَبلِغك إياه.

- تبلغني أنا؟

- نعم لكٌ. لأنه يعرف أنك على اتصال بالرئيس ساركوزي وبالمجلس الوطني الانتقالي.

- لِنسلّم بذلك. وما هو اقتراحه...؟

- يترك أبوه السلطة. نهائياً. وبلا رجعة...

كرّر عدّة مرّات  مُقلّداً حركة اصطياد شيء على الطاولة؛ بعيد عنه بعصبية: بلا رجعة... بلا رجعة...

بعد ذلك تنفّس الصّعّداء وكأنّ تقليده هذه الحركة أتعبّه: "وبعد رحيل الأب سيكون سيف جاهزاً لإجراء تفاوّض عميق بلا محظورات".

انبسط.. قال كل ما عنده، وينتظر الآن ردّة فعلي.

حسنا سمعتك. لكني أعترف لك بأنني لم أفهم لماذا يُرسِلك سيف إلي...

هرّ كتفيه وقال: السؤال ثانوي ينبغي ألا نتوقّف عنده.

لكنْ هناك شيء عليك أن تقوله له من طرفي: "لا أحد في المجلس الوطني الانتقالي سوف يُفاوض أيّ شيءٍ مع أي كان من دون الاتّفاق على نقطة: ليس رحيل القذَّافِي فقط بل رحيل أبنائه أيضاً وبالتالي رحيل سيف ذاته".

اتخذْ هيئة الُمضايق من مُفاوض حسّن النيّة وقع على مُفاوض شديد المراس:

سيف لن يرحل .

إذاً لاشيء للنقاش. لأنَ ليس له من خيار. إما أن يرحل اليوم حيث مايزال الأمر مُمكنا ويوفر له المجتمع الدولي الأمان, وإما أن ينتهي كما انتهى تشاوشيسكو أو... فأكمل الّجملة والأسى يغمر سحنتّه: "أو مثل صدام حسين."

-هو ذا مثل حيوان مُطارّد محصور في آخر جحر هل هذا ما يُريد؟

- لا. لكنه لن يترك بلّده.

- سوف يترك بلّده طبعاً. حتما أنا لا أعرف هذا الرجل. لكن..

- هو يعرفك. حدثني عنك.

حسّنا أنا مُتأكّد من أنَّ فيه بعض العقل ليعرف أنه بعد أن فعل ما فعل وأنْه حين يعي حجم الجرائم التي ارتكبها لا يستطيع العودة إلى الوراء أبداً.

لا. لا يعرف هذا. هذا إنساني لكنه لا يعرفه.

هذا الرجل يثير فضولي. كما تُثيرني محُاولته فقرّرت أن أتابع معه قليلاً.

كان عند سيفكم مشروع حياة. كان يُريد أن يُحَدّث ليبيا ويُدخلها في دائرة الأوطان المحترمة.

كان صادقاً. لا يُمكِن أن تتخيّل ما فعلّه كي يرمم صورة بلاده.

صادق أم غير صادق انتهى أمره. هذا ما أسعى لأقوله لك. وطبعاً حين سيتوصّل عبر تحوّل تاريخي غير معقول إلى هزيمة الثورة فماذا سيفعل بعد ذلك؟ يقضي حياته في بلّد مُصاب بالطاعون؟ يعيش محروماً من الإقامة في العواصم الكبرى تتعقّبه المحاكم الدوليّة يعيش ملعوناً؟ يفضّْل هذا على أن يترّك وطنه؟.

ما عمره؟

قام بحركة من يحسب: "تسعة وثلاثون عاماً".

هل سيّنهي حياته محبوساً في طرابلس كالبشير في الخرطوم؟ ليس هذا معن إذا كان رجلا كما تقول إذا كان طموحه أن يصير هذا الُمصلِح هذا العصري.

تفكر الرجل ثم فرّد ذراعيه وقال بنبرة قدَّريّة: "ليس له من خيار."

أجل. ما تزال أمامه عدة أيام ورُبما عدّة أسابيع كي يفهم أن الجولة انتهت وكي

يُفاوض على رحيله إلى آخر بلد لم يوقّع اتفاقية ترحيل المطلوبين مع محكمة لاهاي...

لا يُمكن أن يطلب ضماناً شخصياً له فقط. سيف ليس كذلك أبداً. عنده ستة إخوة وأخت.

حسّناً. لنقل إذاً: ضمان له ولأفراد عائلته. أين المشكلة؟

 المشكلة أن المجتمع الدولي لا يملك مصداقية حين يلتزم المجتمع الدولي يفي بالتزامه. ومن مصلحة الجميع أن تتوقف هذه الحرب.

لكنْ لا! انظر إذاً!

صرخ ونبض كالمجنون وكاد يقلب كرسيّه. وأشار لي إلى الشاشة حيث كان فرانسوا منذ بداية الحديث يُشاهد مُباراة كرة قدّم من دون صوت. وفي أسفل الشاشة يمر خبَرٌ عاجل يُعلِن أن اعتقال حسني مُبارك في سجن مستشفى قد مُدّدَ خمسة عشر يومأ وهو يُنقل إليه الآن.

انظر ما يحصل مع حسني مبارك. قال هذا بصوت يرتجف اشمئزازاً. "كان عنده الضمان الأميركي وضمان العالم ضمان الجيش. وهذا المساء سوف ينام في السّجن.

هذا صحيح.

وبعد! يداه ليستا مُلطَختينَ بالدم. فقد قبل أن يترك السلطة من دون إراقة الدم...

قاطعته بالقول: هناك 352 قتيلاً وهذا ليس قليلاً.

نظر إلي ببلاهة كما لو أنه لا يعرف بوقوع قتلى.

طيّب. لكن لا يُقارّن بسيف الذي تلطخت يداه بكثير بكثير من الدم.

أنا لم أقَوّلْك هذا الكلام.

فكر الرجل. حاول أن يلتقط نظرة فرانسوا الذي لم تُفارق عيناه الشاشة المعلّقة على الجدار وعاد إلي:

-هل أنت جاهز لاستقبال سيف لتقول له ما قُلتَ لي هنا؟

- أين؟

 -  في طرابلس.

ضحكتٌ قائلاً:

لا أُفضّل هذا. هل يستطيع الخروج من ليبيا؟

فردٌ بنبرة المتبجح:

- نعم أكيد! وإلى أيّ مكان يُريد!

إلى جزيرة مالطة مثلاً؟

اضطرب... ليس إلى مالطة. إذ يُمكن أن يُقبّض عليه.

حسنا أين إذا؟

- تونس.

- طيّب. لكن بالنسبة لي يجب أن يكون الأمر واضحاً فأنا لا أقبل بلقائه إلا بشرطّين. بل بثلاثة شروط.

أخذ الرجل ورقة كتبت عليها اسمه؛ كما لو أنه سيْدوّنُ شروطي. وفي الواقع مرّقها

ووضع في جيب سترته القطعة التي كتب عليها اسمّه (من دون أن يعلّم أنني سجّلته في ذاكرتي تحسّباً لذلك). وقام بحركة من سيّدوّن شيئاً على القطعة المتِبقيّة من الورقة:

أوّلاً أن يتمنى هذا اللقاء طبعاً كلّ من الرئيس الفرنسي ورئيس المجلس الوطني الانتقالي.

- دوّن ما قُلته ‏ وهزٌ رأسه كأنّه يُريد أن يقول إِنّ هذا أقل ما يُمكِن.

لكن بعد ذلك ستكون هناك نقطتان. أن تشرح له بوضوح أن الجميع يُضيع وقته إذا لم يفهم أن رحيله؛ بالنسبة للفرنسيين وللبريطانيين؛ أولويّة، وعليه أن يفهم بعد ذلك أن هناك في نظري هذه المرّة أولويّة الأولويّات: وقف قصف مصراتة غداً صباحا ولن أقوم حتى بإعلام أصدقائي بهذا الحديث الذي دار بيننا. إلا إذا نفّذت طرابلس وقف إطلاق النار في مصراتة.

تصرّف كأنّه سعد بكلامي وقرّر الكف عن أن يُدوّن شيئاً.

حين نعقد صفقة يجب أن نكون مَرنين. هناك ترتيب أوضاع الرحيل؛ وعلى كل طرف أن يتقدّم خطوة.

أنا لا أعقد صفقة؛ ولستٌ مرناً.

إذاً عندي فكرة أخيرة؛ هل يُمكنني أن أقترحها عليك؟

هناء بدأت أتعب تكوّن لدي انطباع بأن حوارنا حوار طُّرْشان. فقلت باقتضاب: بإمكانك أن تقترح دوماً.

يرحل القذّافي وننظّم انتخابات حُرَة تحت رقابة الأمم المتحِدة والجامعة العربية.

ويرحل سيف مع تأشيرة من الأمم المتُحدة لكنْ بعد الانتخابات. هل هذا أفضل؟ هل هذا أكثر قبولاً؟

أعدتٌ له القول بأنّ لا معنى لهذا وأنّ مَن بعثّه يجب أن يفهم هذا.

فصرخ من جديد أنه لبس مبعوث أحد وأنْه جاء فقط يُحاول استغلال فرصةٍ ستكون فرصة الشعب الليبي ولئن كان هنا مُقابلي فذلك لاعتقاده أنني مثله رجل حوار.

أجبته بأننا قلنا كل شيئ أي لم نفل في النهاية شيئا ذا أهمية ولن آخذ في الحسبان حتى هذا الشيء غير المهم ما دامت القنابل تتساقط على مصراتة.

قام بإيماءته القدّرية إيماءة الوسيط النزيه الذي حاول كل شيء. حقاً كل شيى غير أنه كان عليه؛ أمام سوء نيّة الطرّفين وبوجه خاصٌ سوء نيّتي أن يخفض ذراعيه ويمضي.. ومضى.

بعد ذهابه بخمس عشرة دقيقة بينما كنت أُعلّق مع فرانسوا على هذا الحديث الغريب الذي تابعه بشكل طبيعي من ألفه إلى يائه؛ جاء الحارس الليلي يُخبرني أنَّ «صديقي» ذهب وهذه غرابة إضافيّة ‏ ناسياً مفاتيح سيّارته في مكتب الاستقبال وأنّه أدار محرك سيّارته من دون مفتاح..

قمت ببحث على الإنترنت لأكتشف أنه مُهرّب دولي كبير وضعتّه وكالات الاستخبارات الأميركية على اللائحة السوداء وهو متورّط في عدّة عمليّات اختلاس في مُقاطعة بترول صدام حُسين وهو كذلك مُقرّب من سيف الإسلام (وقريب جدّاً من محمّد إسماعيل؛ رئيس المخابرات السريّة في طرابلس الذي جاء الأسبوع الماضي إلى لندن مُحاولاً أن يُمرّر اقتراحاً كالاقتراح الذي قدّمه لي(عدت كي أنام مُستمتعا لكنْ شاعراً بأن هذا كلّه ليس جديا ولا يستحِقٌ أن أزعِج به غداً لا الرئيس الفرنسي ولا رئيس المجلس الوطني الانتقالي.

السبت 23 نيسان/أبريل (وقف إطلاق النار في مصراتة؟)

الساعة السابعة صباحاً. وصلت التلفزيون على محطة LCI وانتظرتٌ الأخبار. وكان في عناوين النشرة هذا الخبر الذي قُدّم على أنه «انقلاب مُفاجئ»: قرّر الليبيون الُموالون للقذّافي خلال هذا الليل وقف إطلاق النار في مصراتة كما صرّحوا للتوً!...

طبعاً فوجئتٌ.. وكي أكون صريحا كنت مُنفعلاً قليلاً.

فقرّرتٌ خلافاً لما كنتٌ أفكر فيه أمس أن اتصل بنيكولا ساركوزي وبعلي زيدان.

اتصلتٌ أولاً بساركوزي. سألته إن كان بإمكاننا أن نتكلّم؛ وإذا كان يُفضّل أن أتصل به على رقم آخر، غير أني قليلا ما عرفت من آمثاله أناساً لا يُعانون كثيراً من البارانويا. قال: "لا" بهذا الصوت الجديد العذب الذي اتَخْذه لِيُعاكٍس نزوعه إلى الحميّة ونفاد الصَّبر. "لا لا أنا أسمعك جيّداً". وبالتالي حكيت له ببعض التفصيل قصّة نهاية سهرتي الغريبة أمس.

قلت له إنني كنت قد قرّرت ألا أزعجه بقصّة غير معقولة لكنّ ما غيّر رأيي هذا الصباح إثر استيقاظي هو خير انسحاب الليبيّينَ من مصراتة، في هذه اللحظة، انفجر قائلاً: "يا للوقاحة! هل تعرف لاذا ينسحبون؟ لأننا بذلنا جُهداً كبيراً في مصراتة! من أجل هذا بالتحديد! إذ فليكفُوا عن أن يُقدّموا لنا انسحابهم بأنّه ناتج عن حُسن نيّة! سيتّصل بك جان دافيد؛ وستحكي له ذلك كلّه طبعا لعل وعسى". بعد ثلاث دقائق اتصل بي ليفيت وكان أقلّ صرامة من رئيسه. سلّم بالقول "هذه علامة تؤكٌّد علاماتٍ أخرى في حوزتنا لكنّ هذه أقواها طبعا سوف نتحقّق من ذلك وعلى كلّ حال هذا يبرهن على أننا كنا محقين في أن نضرب بقوة وانهم في ضيق شديد." أمَا علي زيدان فقد خاطبني في قليل أو كثير باللغة نفسها. باستثناء التفصيل الذي يعرفه بحكم أَنْه كان سابقاً وزير النفط في سلطنة عمان.

باستثناء هذا التفصيل الآخر الذي أعلنه لي وهو أنه إذا انسحبت كتائب القذافي فذلك

لتفسح المجال للمدنيين وللعسكريين الْمتخفين باللباس المدني الذين تلاحقهم عملية الموت نفسها، وهذا هو الإثبات.

الأحد 24 نيسان/أبريل (ما نفع ألونزيو)

قتل مُراسلان صحفيّان أحدهما بريطاني والآخر أميركي في مصراتة: اسم البريطاني تيم هيترانتكتون كان يعمل مع قناة عن vanity fair واسم الأميركي كريس هوندروس من قناة Gitrry imags  وفوراً ظهر عدد مجلة Marianne  الذي أخبرني به موريس تشافران، والذي وضع صورة على غلافها مع مقالة لجوزيف ‏ ماسيه سكارون بعنوان «برنار. هري ليفي أمير حرب. فهل العبارة هي سبب اضطرابي؟ أم سببّه هذه الكلمة المرعبة «حرب» التي تُلصّق باسمي من دون أن يكون الأمر هذه المرّة مُتَصِلاً بحرب بريئة في الفلسفة؟ أم هو تزامُن الخبرّين؟ فكرة أن يموت الُمراسلان الصَّحفْيَان موتاً فعليا في حرب ليست مسرحاً في الوقت الذي يُصوّروني «أمير حرب؛؟ أم أنه سوء التفاهّم الناتج عن الصورة التي اختارها موريس وُتظهرني في مُعسكر 17 شباط/ فبراير» يُحيط بي مظليون من جنود النُخبة في التدريب الذي يبدو كأنني أقودهم في حين أننا كنا عائدين باتجاه خيامهم؟

لا شكٌ في أن هذا كله سبب اضطرابي. كل هذه المصادر من الإزعاج معاً. لكن أيضاً ما تستحضره صيغة "أمير حرب" حرفياً في ذاتي ‏-هكذا خلقت- عندما تُطلّق على الكتّاب.

فما الأمرٌ في جوهره؟ ومن هم أولئك الذين عكفوا على الحرب في تاريخ الآدب؟ أضع جانباً من كانت مِهنتُهم أمراء حرب. في العالم القديم مثلاً كثونيتيديس أو كسينوفون اللذين زاولا الكتابة كاتبين لسرد أحداث الحروب التي خاضاها. وأضع جانباً حالة «لاكلو الذي كان؛ مثل كسينوفون جنرالاً مُحُترفا حتى لو لم تكن لروايته العلاقات الخطيرة أية روابط بالحروب التي خاضها فعلاً. وضعتُ جانبا الحال التي نفكدر فيها كلّ يوم حال بايرون الطائر عام 1824 لنجدة استقلال اليونان لأنّه فجأةٌ وبالعكس كان «أمير حرب» بأقل مما قيل عنه: موته الأكيد في ميسولونغي على أبواب البيلوبونيز الثائرة ضدّ العثمانيّين لكانه مات قبل أن يستطيع قيادة جيش سوليوت الصغير الذي جنّده وجهّزه وزوّده بالمدافع الريفية وببدلات عسكرية مُكلفة من دون أن يملك الوقت بعبارة أخرى قبل أن يستطيع ممارسة القيادة التي كان يحَلّم بها ومن أجلها ترك إيطاليا واقتحم الحصار البحري الذي فرضه الأتراك وبذّر قسماً من ثروته. كذلك أضع جانباً حال ميشيل دو مونتينيوه حتى لو أن كاتب المقالة الذي سخر لها كتابا فكر في ذلك حتماً: "يبيع نفسه للشيطان على جواد" طبعا مُعاكس للمُثقف المتسمّر في مكتبته؛ التي رونّقتها الخرافات الكسولة أتمنّى ذلك من كلل قلبي لكن أمير حرب قائد جيش ورئيس مُرتزقة فهذا شأن آخر وليس عندي انطباع بأنَّ قصّته كانت هنا. وأستبعد أيضا وللسبب ذاته الكتّاب المّقاومين وكنت سأقول فقط المقاومين . أستبعد  جورج سيمون؛ وجورج أورويل؛ ورومان غراي وجان بريفوست ورينيه شار.. أستبعد كل هؤلاء الرجال الذين طالما أعجبتٌ بهم والذين ما يزالون اليوم في قمّة اهتمامي؛ لكنّهم وإن كانوا مثالاً للشجاعة والبطولة لم يكونوا بالمعنى الحصري «أمراء» حرب لأنهم انخرطوا وحدّهم. باسمهم وحدهم. وبقرارهم الوحيد, في وحدات المقاتلين التي لم يكونوا قادتها.

لا. فعندما نقول أمير حرب وعندما نبحث عمّن كان في وقتٍ واحد أمير حرب وكاتب أو كاتباً وأمير حرب وعندما نتساءل من هم الكتّاب الذين صاروا بحقٌ من دون أن يكفُوا عن أن يكونوا كتابا ليس فقط رجالاً يخوضون حرباً ويُشاركون في حرب ويُدافعون والسلاح في أيديهم عن قضية عزيزة عليهم؛ بل أمراء هذه الحرب وقباطنة هذه القضية وقادة ينهضون بمسؤولية أو بجزء من مسؤولية قيادة هذه القضية إلى النصر.. وهناك أمثلة كثيرة كهذه تخطر على البال. ثمة أمثلة أخرى في الواقع أو بالأحرى؛ هناك مثالان. لكنّ الثاني خطر من تلقاء ذاته ثمّ حذا المثال الأوّل حذوه حرفياً. وهنا تتعقد‏ الأشياء وتغدو مُزعجة وخصوصاً بالقياس إلى ُمخيلتي ذات الطابع الخاص.

أَوّلاً هناك مثال مالرو مؤلّف رواية الأمل؛ لكنّه كذلك قائد فرقة إسبانيا أمير حرب إن كان ثمة من حرب أمير حرب بامتيازه نموذج؛ ونموذج أمثل لأمير الحرب ‏وأنا أَحِبَ بطبيعة الحال هذا السابق. لكن ثمّة قبل مالروء ذاك الذي قال مالرو في شبابه إنه يُريد أن يكون مثلّه أو لا شيء ‏ ثمّة هذا الكاتب السابق لمالرو الذي كان مثالاً لمالرو ومُلِهِمّه السرّي ليس سريّاً إلى حدٌ كبير من جهة أخرى ثمّة هذا الكاتب المنسيّ غير أنْه كان في نهاية الحرب العالمية الأولى بمعزل عن قصائده؛ ومسرحياته ورواياته؛ قائد طيّارين رائعأ وكانت فرفة المطاردة 87 التي يقودها مصدر الإيحاء لفرقة إسبانيا، ثمّة غابريبل دانونزيو مؤلف ابن الشبق وقول الأصمّ الأبكم والذي كان بين الكتابّين:

الطيار البطولي الذي؛ على طريقة بايرون الذي كان يُقال إِنّ حديثاً واحداً كان يكفي في ليلة واحدة؛ ليجعله مشهوراً لم يلزمه؛ ليترك أثره في ذهن جيلّين أو ثلاثة أجيال من الشباب إلا طلعة جويّة واحدة؛ واحدة؛ هي طلعته المشهورة التي ألقى خلالها منشورات تشرح للنمساويين أن الطيارة التي يقودها كان يُمكن أن تلقي عليهم قنابل لكنّه اختاره في ذلك اليوم ألا يُرسِل إليهم إلا كلمات أخوة وسلام.

قائد نعم بحصر المعنى قائد الجيش الشخصي الصغير الذي احتل سنة 1919 مدينة فيوم في إستريا واحتلّها احتلالاً فعلياً مُقابل عساكر فرنسيّين وبريطانيين باستراتيجية حقيقية وتكتيك حقيقي وموتى حقيقيين وحكمها خمسة عشر شهراً من أيلول/ ديسمبر 1919 حتى شهر كانون الأول/ ديسمبر 1920 على الرغم من أنف العالم كله وضع لها دستورا ولم يُطرّد منها ومن جديد بالقوٌة إلا عندما وجد الجيش الإيطالي أن اللغامرة تسبب الفوضى.

هو ذا نموذج أمير الحرب إِنّه مالرو. لكنّ نموذج مالرو وقدوته. ومُعلّمه إنما هو غابرييل دانونزيو. وهنا بوضوح نقطة ضعفي من هنا يأتيني الاضطراب والتوعّك

والدُوار الخ. أولآ بالطبع لأنّ هذا كله لا ينطبق على حالي فهذا عبثيٌ إنها حماقة ‏ فأنا لم أحاصر أبداً مدينة ولم أقد جيشاً. لكن بوجه خاص لأنني أعرف شيئاً لا بأس به عن دانونزيو فقد قرأتٌ جل أعماله؛ وبلغ تأثيره في خلال فترة مُراهقتي ما يكفي ليجعلني أعِي كل ما هو مَقيتٌ موضوعياً في النموذج. تضخيم الشخصية. جانبها المفخم الرنّان جدا المنفوخ في أشعاره. المتصنّم في وضعيّاته. إيديولوجيّته في الفعل من أجل الفعل. وإيمانه بمذهب بائد ساد في العشرينيات من القرن الماضي. حتى قبل أن يتحدّث الناس عن المشهد، ويرتبط بالباقي تحريره على يد الفاشيّين وموسوليني الذي أدرك الكسب الذي يُمكِن أن يحصل عليه من إلحاق سياسي لهذا القائد أمير مونتانفوزو وحاكم دولة فيوم الحرّة؛ فسواء أكان صاحب الشأن أقلّ شبهة مما قيل عنه أم أنه سار أقلّ مما كان يُريد الدوق في محاولة الإلحاق ومع المسرحيات التي تتماشى معه فهذا لا يمنع من أن يكون اسمه باستمراره ورُبَّما إلى الأبد مُلطّخاً بها. لكن في الوقت نفسه... إذا فكرت في الأمر جيداً...نعم إذا فكرت بهذه العلاقة مع مالرو الذي لايخلو من الأهمية إذا وضعنا إلحاقاً مُقابل إلحاق. أفكر بهذه الصورة المزدوجة لمالرو الشاب يقول "لكلارا" في الهند الصينية حين كانت تُعالج في المستشفى إثر قضية التماثيل إِنّه لاشيء في العالم يُشتهى كما يبدو له أكثر من أن يقيس الإنسان نفسه بأمير الحرب في فيوم ويكون في مستواه ذات يوم (وأضافت كلارا بعد خمسين سنة؛ في صفحة رائعة من كتاب عشرون عاماً معاً حيث تصف "بالمهرّج الفاسق" الْمغامرَ الفذّ الذي يدعي زوجّها أنه يُماثله: "والأكثر طرافةً أنه ربما صار يماثله حقأ صار هذا الأمير الحربي الذي كان يحلّم به". ‏ وأفكر بدانونزيو العجوز الذي بالمُقابل كان يقرأ لحظة موته وهو مشلول؛ وأعمى تقريبا وعلى وشك أن يصعقه الموت وهو معزول في فيتوريال دو كاردون ريفيرا بآخر هجوم كتاب الوجه العظيم لإيلي فور وكذلك الظرف البشري لتلميذه اللامع أتصور أنّه كان يسمع في حوار جيزور وفيرال صدىٌ قصيّآ أعني الصياغة الكاملة لمرافعته المزدوجة بين الحكمة والتألق، العقل والشهوة: الفضيلة والصَّلّف النيتشويٌ.

أفكر بنفسي» وأنا في العشرين لحظة ذهابي إلى بنغلادش وتطوّعي في لواء "مكتي باهيني" الذي إن لم توجد فيوم قد يساهم في احتلال جيسور وخولان ثم داكًا أرى نفسي من جديد في فيريير أمام مالرو العجوز الذي كان تقريباً مثل العجوز دانونزيو حيث كان قد وجّه نداءً إلى تأسيس فرقة دولية استجبتٌ له ورأيت مالرو في آخر رمق زائغاً تقريبا لكنّه دوما- ولو طُلِب مني لأكّدت ذلك- مسكون بحماسة الُمغامر الكبير الذي كانه سنة 1919 وقد جعلني فجأة وبفعل العدوى مسكوناً أنا أيضاً.

أفكر بمونترلان. أوافق على أن مونترلان ليس مرجعاً لكنّي أتذكّره طبعا في نهاية حياته الْخاصّة وكان قد فقد بصره تقريبا حيث كان يحكي لزوّاره عن تأثير دانونزيو فيه وأنّه في النهاية قد يكون أتاح له الهروب من الافتتان الآخر الذي كاد يودي بحياته أي افتتانه ببارايس. وإني لأتساءل إن كان بالنسبة لجيل كامل بما في ذلك جيل مونترلان ومالرو وجيل الكتاب الطيّارين الآخرين كسانت ايكزوبيري وغراي والبطولة الفعلية المعيشة وبالتالي الشّعرية؛ وجيل المؤلّف الأعور الذي جُرِح في الحرب عدّة مرّات مؤلّف مسرحيّة "شهيد سان سيباستيان وليلىٌ" ألا يُمكِن أن يكون طريقة لنتوسّل قليلاً من الهيبة المظلمة لبارايس الذي نسيناه تماما هو الآخر لكنّه كان في فرنسا مُغّنى أسوأ أنواع الوطنية، المثقف النظامي المعادي لديفوس الذي ابتدع مع حفنةٍ من الآخرين انطلاقاً من هنا شعبوية الاشتراكية الوطنية على الطريقة الفرنسية أي أنه كانت هذه الأسباب مجتمعة خطراً مُهدّداً بطريقة أخرى.

إنها دوماً القصّة نفسها. دوماً الحرب الأخرى نفسها غير المرئية في قلب المكتبة. ونفس النموذج من البرهنة الذي غالباً ما قُمت به من أجل جيلي في ما يِخصّ الالتوسريّة: والماويّة اللتين كانتا ما كانتاه تنقلان نصيبهما من الجنون لكنهما كانتا تفعلان فعليهما مع ذلك كجيل التاريخ المنطوية على الفارقة التي تُدين الستالينية وتتعامل مع شرها بشر آخر، وتفرض اللغة إلى أولئك الذين كانوا يشرعون في التخلّص منها من دون أن يعرفوا كيف. مُسلّمة: لا أحد مسؤول عن عصره ولا عن مُعاصريه؛ ولا عن الجيل الذي سبقه ولا عن الطريقة التي ورّثوه بها ما كان يدعوه أساتذتي في عصر البنيوية؛ إشكالهم؛ وهو في كل مرّة مسرح عمليّاتهم الإجباري. نظرية: لم يكن من إشكال بالنسبة لكتّاب النصف الأول من القرن العشرين سوى إشكال الشمولية عامّة وإشكال الفاشيّة خاصّة ‏ ومسألة حيوية: مسألة أقصر الطرّق إلى الفاشية وبالمقابل أفضل طريقة ليس لقطع طريقها بل للامتناع نهائياً عن سلوكها وبالتالي ينتج تعليق: بالنسبة لأكبر الروائيين الفرنسيين في تلك الفترة وفي الفترة التي تلتها بالنسبة لأكثرهم شغفاً بالفعل بالنسبة لأولئك الذين خدّموا بالّمصالحة بين السيف والقلّم بالنسبة لمن يعيشون الحنين مثل ساندراس إلى أدب «الأعصاب المتوتّرة» والعضلات المعصوبة المُتأهّبة للقفز في الواقع وقادرة على اختراق الناسفة والمدفع واللّغم والنار والغاز والرشّاش. ربما كان للمُغامرين مسلكان رئيسان. مسلك بارايس الذي يُضيف إلى مذهب الفعل وعقيدة الطاقة وَحبه للفرجة ودين الأرض والأموات وتلاله المْلْهَمَةَ ومعاداته الصارخة للسامية ويُخْفي النزعة الهتلريّة ويُعارضها فعلاً من جانب آخر من خلال الكفاح في إيطاليا سنة 1920 و1930 ضِدٌ التحالف مع ألمانيا وفعلوا بهذا فعل الترياق فعل اللّقاح البديل عن الاختلاف البسيط. دانونزيوه التوسر، ومالرو، وأتباع مذهبه الحليف المُفارق الذي كان ينبغي الاتكاء عليه كان يرفع بوصفه دعامة عمليّات رهن أكثر عفناً؟

هيًّا هذا حسن! أتباع طيّار فيوم باٌلمّقارنة مع وحم أرياف نانسي! بما أن الأشياء كذلك؛ وأن خارطة الأفكار تفرض علينا قانونها أحياناً أريد في النهاية أن آخذ هذا الغابرييل دانونزيو الذي أحضروه إلى ذاكرتي هذا الصباح عن طريق الصحافة. إِنّها الحرب... فهيًا إليها.

الاثتين 25 نيسان/أبريل: (الاجابة على مقالة كلود لانزمان)

لانزمان أيضاً. يُحدَثني الناس في كل مكان. عن مقالة لانزمان المؤسفة.

فما الذي أمكن أن يدفع صديقي إلى هذا التراجع المجنون الذي جعله يُدين العملية ضدٌ القذّافي التي كان قبل شهر قد تمناها ودعا إليها؟ كيف أمكن لرجل من جبلته أن يجعل المشهد ينقلب هكذا: "في يوم يوقع عريضة تدعو فرنسا إلى التدخل وفي يوم آخر يُدين التدخل نفسه؛ ويخون توقيعه."

كيف يحصل أنّ مؤلّف فيلم جيش الدفاع الإسرائيلي (تساحال) فيلم عن جيش إحدى قواعده المطلقة ألا يتراجع أمام أية مأثرة تقنية من شأنها أن تحمي إلى أقصى حدٌّ حياة جنوده استطاع أن يُعلّم مثل برومان وكثير من الآخرين الذين يُشبهونه قليلاً جداً قضية «اختيارعدّم موت» أي جندي؟

هل يكون صاحب سارتر الذي كان في أوج حنّقه على الحرب «عن بُعْد»؛ قد استطاع أن يطلق في تمجيد الثلاثينات المبالغ فيها لمعركة «المواجهة المباشرة» وبفروسيّته القضيبية؟ حين كنّا منذ ستين عامأ في كل المعارك ضد الديكتاتوريات هل كان لنا الحق في أن نكتب مقالةٌ كاملة ‏ ونكتب اليوم مقالة أخرى في مجلّة ماريان الأسبوعية المصوّرة ‏ من دون أن نجد أحدا بصرف النظر عن جملة معترضة شديدة الغرابة (لا أحد بيننا يحِبَ القذَّافي ولم يكن له قضية معه ولم يُفاوضه أبداً) يُدِين المجزرة التي يرتكبها مُحترفو الموت الذين أطلقوا صواريخهم عن بُعد 40 كم على مدنيين عزّل في أغلب الأحيان... يجب توضيح ذلك ذات يوم.

احترمت هذا الرجل للغاية. وأعجبتٌ بكتابه المحرّقة وكتابه أرنب باتاغونيا إلى حدّ أنني لا أحاول أن أفهم من أين أتاه هذا الافتنان المُفاجئ بمُهرّج دمويّ صار بريشته مثل محمّد عطا بريشة جان بودريار «شيطاناً يُلقي الأذى» و«يضرب» ضرباتنا بضعف غريب. لكن الآن يجب أن نجيبه.

يجب (لأنْ الناس في كل مكان يحدّثونني عنه باستمرار وهم دعم مُلِهَم لجيش السياديّين الذين كانوا بعد ستة أسابيع؛ ما يزالون يبحثون عن الأسباب الموجبة لترك الليبيين يموتون(  التصرّف إزاء سلسلة من التخمينات والحماقات ومُعاكسة الحقائق التي يُمكن لهيبته أن يسلَّم بها من دون التأكد منها؛ وهذا سيكون مأساوياً.  عكس الحقيقة - الطريف ‏ أنه تحت ضغطي عليه بحُكم الصداقة كان سيوقع النداء الذي يُنكره ويسحب توقيعه اليوم.

وعكس الحقيقة ‏ الأكثر خطراً ‏هي فكرة أن أصدقاء ليبيا الحرّة كان يُمكِن أن يُعلنوا عن الضربات التي كان ينبغي ألا تستمر إلا عدة أيَام لو بدأت قبل ذلك؛ عندما كان ابن القذّافي (وليس القذّافي نفسه كما يكتب مُتسرّعاً) يتوعّد بإغراق شعبه في أنهار من الدم, نعم رُبّما كانت عدّة أيَام كافية لكن بالتأكيد ليس لاحقآ ولا أحد وبالتأكيد ليس أنا يجازِف في 19 آذار/ مارس حين أوقف الطيران الفرنسي أو الدبّابات في ضواحي بنغازي وفق برنامج زمني بهذه الدقّة.

حماقة غير معقولة؛ وغير مفهومة؛ أن يستخدم كلمة «عملية انتحاريّة» (كاميكاز) في وصف تكنولوجيا طيّارات التحالف.

والمعاكس للحقيقة دوماً هو العبارة التي يقول فيها إِنَّ بين صفوف العسكر ومُرتزقة القذَّافي «ليس للضحايا عدد» ولا اسم ‏ وهذا في نصّه لا نملك عنه فكرة وأكرّر هنا لا نملك أية فكرة عن الضحايا الأخرى، الحقيقة المدنيّون في الزاوية أو في الزنتان الذين صفوا بالأسلحة الثقيلة وجرحى مستشفى مصراتة الذين قُصِفوا بلا حياء وآخر سكّان اجدابيا الأبطال الذين أجبروا كما في كوسوفو على العيش في الأقبية.

والمُعاكس للحقيقة أيضا الذي يرقى إلى مستوى إشاعة الأكاذيب التي غالباً ما استنكرتها أنا لانزمان أو سخرنا منها إِنَّما هو الإدانة النكراء لعملية تقوم بتدمير ليبيا: هيّا بنا يا عزيزي كلود! تعالّ إذاً في المرّة القادمة وسوف ترى بعينيك:؛ في بنغازي والبيضاء وطبرق أن رجال القدّافي لا طيّارات التحالّف هم الذين هدّموا هذا البلّد وحطموه ودمّروه!

وإنّه لأمرٌ صبيان في ما يتعلّق بالقذّافي ساعة بدا أننا نفكّر بمُفاوضته على إيجاد مخرج كان التأكيد القاطع غير الُمعلّن هو أنّه يجب أن يموت..

وصبيانية هي الجملة التي يرغب فيها لانزمان أن يظهر بمظهر الخبير حين يأسف لأنّ المجلس العسكري فرض عدداً مُفْرِطاً من الطلعات الجوية على أجهزتنا.

وأنا لا أتحدّث عن العرض البلاغي القديم ‏ لكننا نُعاني من أن نجد بقلّمه حيث يتذرّع بمظاهر جُبِنٍ ماضيّة (ميتران، شيراك، ساركوزي الذي كان صديقاً مُقرّباً لزعيم الإرهاب الدولي) لكي يُسوّغ اليوم المواظبة على انعدام الفعل..

اعتقد خلافاً لكلود أن هذه الحرب المُختلفة عن الحرب في العراق (وهي عمليةمحدودة أجازتها الأمم المتحدة؛ بناء على طلّب الليبيّين أنفسهم وعلى موافقة الجامعة العربية وغايتها وقف مذبحة مُعلّنة) تُشكّل سابقة وستدخل التاريخ.

وأعتقد أنّ هذه الحرب المختلفة عن حرب البوسنة (ثلاث سنوات من عدّم التدخل!) وكذلك عن حرب رواندا (مجتمع دولي يقف مكتوف الأيدي مُنتظراً نهاية المذبحة!) هي على مستوى عصر فهم في النهاية أن لا أحد يُمكنه احتكار السلطة.

وفي النهاية أعتقد أن القذافي سوف يرحل ويترك الشعب الليبي يُقرّر مصيره بنفسه.

لكن الآن يالهَا من خسارة. ويا له من حُزن!

الثلاثاء 26 نيسان/أبريل (مع الطيارين الفرنسيين)

المجلس العسكري لسلاح الجو. الجنرال بالومرو من جديد. لكن يحيط به هذه المرّة مُعاونوه وقادة العمليات؛ وثلاثة ضُبَّاط شباب يُكلّفون بمهمات لأوّل مرّة ‏ بل هذه هي وإن ل يكن لي الحق في أن أبوح بهذا) مُهِمّتهم الأولى التي كانت يوم السبت حيث دمروا الرتل الْمتقدّمٍ من دبّابات القذّافي.

بدأتُ بنقل اعتراف الشعب الليبي في بنغازي بجميل فرنسا كما سمعت التعبير عنه هناك. قلتٌ لهم إنني لست «وطنياً» بإفراط أنا الذي قلَما أنفعل عند سماع النشيد الوطني الفرنسي "لا مارسييز" أنا الذي لا أفاجأ أحيانا كجيل فاليز أن أسمع فيها رنين الجرّس في أعناق الدواب، حكيت لهم كيف أنني حين اتصل بي رئيس الجمهورية في ذلك اليوم الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر كي يخبرني أن الطيران الفرنسي دمّر الدبابات الأربع التي كانت تستعدٌ لدخول العاصمة المتمردة شعرت بالفخر لأنني فرنسي. وعبّرتٌ لهم أخيرا مما لا يروق للصديق لانزمان عن إعجابي بشجاعتهم.

جاء هذا في وقته. لأنهم قالوا إن أكثر ما جرحهم إِنَّما هذه الفكرة عن حرب من دون مخاطرة حيث نقيمها ونحن نركب مُرتاحين في طيّارة مُقاتِلة تحمينا تكنولوجيّتها من أية إصابة. همس أحد الطيّارين الشباب: "كنتٌ أَتَمنّى أن أراهم فيها كنت أتمنى أن أرى رؤوس هؤلاء الذين يُعطون دروسا لو كانوا في مكاني؛ في وَكْنِ طيارتي الرافال لحظة كنتٌ أستعيد في ذاكري كما كان يفعل كل زُملائي في السّرب صوت القذّافي مُعلناً أله سيُسقط أوّل طيارةٍ أجنبية ستّحلّق فوق ليبيا". هؤلاء الرجال يحبون طيّاراتهم. . تنبهتٌ خلال الحديث إلى انهم لا يرون فيها أجهزةٌ موت بقدر ما يرون أنهت آلاتٌّ رائعة خُلقت للعرض والاقتران بالسماء.

لكنهم هنا يحاربون. يخوضون حرباً فعليّة. وهم يكرهون أفكار مقهى التجارة التي يسمعونها في كل مكان تقريباً.. ما كان يُضنيهم أيضاً من الجانب الآخر أي على الأرض هو خطر إيقاع ضحايا. فهناك أوّلاَ خطر الضحايا الصديقة الذي يقض مضجعهم. وهناك كلّ ما يعرفونه عن دبّابات القذّافي الْمخبّأة في المدارس أو في ساحات المستشفيات؛ وهذا حاضر في أذهانهم بشكل دائم.

وهناك فنّ الخديعة الذي يُجيده القائد إذ يضع أهدافاً مموهة أقوى من تمويه طيّاراتهم بالإضافة إلى أنها أقوى من مُضْادّات التمويه التي يعتقدون أنهم أغنياء بها لكنهم أمام هذا القدر الكبير من المكيافيلية يشحب لونهم، وهناك إذًا هذا الفن الذي يُكلّف ثمناً غالبا من دم الأبرياء إن لم يكونوا هم الطيارون الفرنسيون. مُتنبهين تماما؛ ودقيقين ومتيقظين. لكنّ ثمّة أيضاً الغدرٌ نفسه. القوّات الُمسلّحة المعاديّة، جيش الخديعة والجريمة حيث اكتشفتُ أنهم مهمومون بأن يُوقِعوا على الرغم من ذلك؛ أقل عدد ممكن من القتلى. مبدأ انعدام الموتى كما شرحوا لي، همّ النزوع إلى انعدام الموتى؛ ينطبق علينا طبعا وعلى الشعب الليبي المدني بطبيعة الحال وعلى جيوش العدو أيضاً التي لا تتكون من أعداء بل من بشر؛ اكتشفتٌ كبرياءهم وهم يذكرون عدد النداءات التي أطلقتها إذاعات القذافي منذ بداية العمليّات مُطَالِبةَ إياهم بالعودة إلى الثكنات (أو في أفضل الأحوال. بالانشقاق... يقول لنا "توسيديد" إِنّ الوساوس كانت تسكن المُحاربين الأثينيين في فترة حرب "البيلوبوتيز" حين كانوا يصلون أمام السكان المدنيين في المدن المهزومة في "بوتيديه وميلانة" والجيش الفرنسي يمدهم في حال جنود طرابلس المحكوم عليهم وسطيا أنهم في عداد جرائم حكامهم سوف يقولون ما يُريدون لكنْ هنا تقدّم حقيقي لا يُمكن إنكاره في الحرب الجوية وفي فنّ الحرب.

هم مهووسون: في الوقت نفسه كرفاقهم الليبيين الأحرار بثقل الآليات الأطلسية وب"مُنعطف قرارها". قال لي طيّار آخر: في البداية في أوّلَ البداية في تلك الفترة التي ما تزال قريبة لكنه يتحدّث عنها ىما لو أنها من عصر بعيد حيث كانت الضربات الجوية وطنية تقودها المجالس العسكرية في الدوّل الأعضاء كانت تُرسَل المعلومات إلى طيارة الأواكس القائدة للعمليّات التي كانت تتقاطع معها في ساحل سرت وتُجيب خلال عشر دقائق. بينما اليوم... وتردّد. ويبدو أنه تساءل كما تساءل القائد الذي أيقظناه من كيس النوم في عمق خندق أجدابيا إن كان يُمكِن أن يتحدّث بحريّة أمام «مدني». وحين شعر خفية بأنَ هذا مسموح باح بما عنده: «اليوم تنزل المعلومة إلى نابولي وتضيع في متاهات البيروقراطية. وتعالج في اثنتي عشرة دائرة قرار وحين تصعد إلينا يكون الهدف قد تبخَّر". إذاً طبعاً هناك قواعد صارمة من الالتزام حين يتعلّق الأمر بتجنّب إيقاع القتلى. لكنّها قواعد تُعطينا الانطباع بأنَّ لا موضوع آخر لها غير تغذية الآلة تغذية عملها العبثي ومنحها سبباً للحياة يا للخسارة هنا بالُمقابل! حتى خطاب يونس. وخطاب الساقزلي. في باريس وبنغازي نفس الخطة.

وفيما يتصل بقواعد الالتزام لديهم معركتهم اليومية: هذا السلاح الذي لم يختبروه اختباراً فعلياً . هذه القنبلة المُعبّاة بالاسمنت ويصحّح جنرال لا بل بالالمنيوم ‏ وهم تقريبا مُتأكٌدون إذا أَرِسِلَتُ بشكل صحيح تماماً بزاوية قائمة فسوف تخترق الهدف من دون شظايا أخرى غير شظايا الُمصفح الْمتفجّر: "ألا يُمكننا الحصول في هذا السلاح على أن تكون قاعدة الالتزام مرنة؟ آلا يُمكِن أن أنه نقَنع الأخ الأكبر الناتو أن يخفض قطر الأمان في هذه الحال؛ إلى ثلاثين مترا؟ ولماذا لا نحاول هنا أيضا أن نبذل هذا الجّهد الأخير لكى نصير بالفعل جيشاً تقنيّاته عالية جداً؟

تحية إلى هؤلاء الرجال. تحية إلى هؤلاء الشباب الفرنسيّين الذين أنقذوا من غرفة قيادة آلاتهم الطيّارة يوم السبت في 21 آذار/ مارس مدينة مُهدَّدة بمذبحة وأعطوا ضربة البداية لحرب تبقى حرباً مع موكبها من الدموع والخراب لكنّها حربٌ عادلة.

يتواصل