إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح20

ثلاثاء, 09/03/2021 - 00:06

عندما وعدت طرابلس بمكافأة ن من يقتلني أو يأسرني

قضيتٌ ليلةٌ في لندن. بدأت بتحقيق حول حالة سيف الإسلام الذي إذ أعترف أن ذلك يحيرني كنت أنتظر أن أستعلم عنه أكثر وأن أفكر أكثر كي أَدوّن ملاحظاي.. تعهّد جاك مارتينبز الذي كان في هذه الساعة متواجداً هناك بالمصادفة بأن يصطحبني بعد الظهر بين موعدين إلى المتحف الإمبراطوري الحربي كي أرى لوحة باتري شيلد للرسام ويندهام.

عدنا سيراً على الأقدام باتجاه فندق كونو وقد كلمني جاك عن علاقة الفنانين التشكيليين بالحرب، قائلاً لي كثرة تركيزك على الأدب تجعلك تنسى الرسّامين أنت تخفي بالرسّامين فن رسم الحرب، أوتشيلوا وبيكاسو وغويا وبينهم من يعطي الميزة الإضافية بآن يكون أديباً أيضاً مثل ويندهام لويس، توقّف فجأة وبالطريقة الهمجية التي تطبعه وفي وسط الرصيف، وقال: "ولكن قل لي...هذه الحرب؛ لقد اندفعت في هذه الحرب كالمجنونة ولكن بيني وبينك هل أنت واثق من نفسك؟ هل أنت واثق إلى أين يمضي كل ذلك؟"

صراحة السؤال خلخلني لا السؤال بحدّ ذاته واثق من ماذا؟ من أن القذَّافي سوف يسقط نعم وأثْق ثقة مطلقة من أن النظام الذي سيخلفه سيكون جنة الديمقراطية؟ كلا

بالطبع ولكن انتبه قلت له مسترجعاً روح ثلّتنا التي سادت بيننا من خمسة وثلاثين عاماً في الصيف الذي تعارفنا فيه على بعضنا (في لابياد في مقرٌ إِينَاسلّمون الذي كان بشكل ما هنا كما في كلّ فصول الصيف الأخرى مقرٌ لويس التوسر الصيفي أيضاً)! لأنني لم أكن واثقآ ولأنه مازال هناك قدر من عدم التأكد ولأننا لم نلعب كل الأوراق بعد ولأننا يمكن أن نلعب أيضاً نفس اللعبة، لهذا يا عزيزي جاك اندفعتٌ بهذا القدر من الحميّة والحماسة لو كنا واثقين يا عزيزي جاك ولو كان المخرج مرسوماً سلفاً فلماذا نتحرّك إذأ؟ لماذا نغضّب؟ لماذا نلتزم؟ إذاً لكنًا تركنا التاريخ يكتب نفسه بنفسه ولذهبنا للنوم؛ إنها مفارقة الالتزام البديهية...

كلمته ونحن ما نزال على الرصيف نذرعه جيئةٌ وذهابا في ساحة كارلوس حيث وصلنا في النهاية وكان يستنشق نفحاتٍ من صيف 1977 في الأبّياد ومن نفحاتٍ شكوك مارلو في أسبانيا، ومن نفحات شكوك لورانس في الأركان السبعة كيف، كيف ندِمَ بمرارة بعد الغارة الجوية على العقبة لانخراطه في تلك الثورة، إستشهدتٌ ببايرون في تلك الأشهر الأخيرة مذعوراً من قلَّة الجدّية ومن الفرق السرية ومن قلة الشرف؛ وقلة وفاء جنوده الألبانيين.

إنها دائماً نفس الحكاية يا عزيزي! الناس يلتزمون لأنهم لا يعرفون كل شيء, لأنهم

يكونون في طور التردد والحيرة والضبابية لهذا يندفعون في التزامهم بحَميّة ولأنّ الرهان صحيح، يُقاتلون بكل طاقتهم؛ مع أّنهم غير مُتمكنين من إعدادات الرهان. يُقال الشيء نفسه هنا طبعاً مع الاحتفاظ بفرق المراتب: مادامت هذه الحرب عادلة لكنْ قد تنتهي بشكل سيئ، وما دامت الديمقراطية شيئاً جيداً لكنها تعطي الكلام للأوغاد وما دام ما يحدث في ليبيا هو التكذيب الأوّل لنظرية صراع الحضارات لكن بإمكان كل التاريخ أن يعود أو ما زالت عودته ممكنة وقد يتحوّل إلى نقيضه ويُعدَّي أعداء الغرب ما دام ذلك كله هكذا، فمن واجبنا على الدوام أن نلتزِم بهذه الحرب جسداً وروحاً.

بعد ذلك هناك مخاطر لا شك فيها، من البديهيّ أنني لا أتكلّم طبعاً عن خاطر فيزيائية، بل أتكلم عن الآخرين عن الأقوال التي نخْاطِر بها، عن الأفكار التي نضعها موضع التنفيذ، أتكلّم عن هذا الالتزام الذي نجعله موضوع رهان وأقول إن ما نراهن عليه هو ذواتنا وسمعتنا واقتناعاتنا، قيمنا وحياتنا، واسمنا جسداً وروحاً، أعدتُ وكرّرتُ كي أختم كلامي بينما كنت أدخل تحت قبة مدخل الفندق حيث تنتظرني عشيقة سابقة لسيف الإسلام

كي أجري معها حواراً، يجب أن نلتزم جسداً وروحاً، هكذا هو الأمر، هذا هو الحل الوحيد حتى لو أن هذه الكلمات تصيبني بالقشعريرة.

السبت 23 نموز/ يوليو تتمة )خلق العالم كي يُفضي إلى كتاب جميل(

تساءلتٌ منذ بداية تلك المغامرة عدّة مرّات عما يُشبهني أكثر ‏ أن أقول أو أن أفعل أن أكتب أو أن التزم؛ أن أنهمك في كتاب جميل أو أن أعيد ارتباكي مع عفاريتي القديمة لزمن في بداية السبعينات فحينئذ بدل أن أكتب أطروحتي بجديّة شغلتُ وظيفةٌ مؤقتة في وزارة التخطيط، في بنغلادش، وتساءلتٌ؛ في بداية المطاف عمّا إذا لم يكن اختياري الحقيقي هو ألا أختار، أن أقول ثم أفعل، أن أفعل ثم أقول، أن أرى الليبيين يفعلون وأشاور في ما يفعلون، كُمَ في مرحلة ثانية عندما ينتهي كل شيء أو أحكيه وأقوله حتى تدريجيا كما أفعل الآن.

رأيتٌ الخطر جيّداً الفعل من أجل القَول وعلى كل وجهٍ محكيّ وكل حدث مُعاش أتساءل كم سطرأ وكم صفحة سيترك (عبد الفتاح يونس وخط جبهة كهذا والاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي وخطوط الدفاع عن بنغازي؛ وكم من الكتائب لا من الجنود بل من الأدب والكلمات: كثير من الكتّاب وليسوا قَلَةَ انخدعوا بذلك. وهنا مكمن الخطر(

ولكني رأيتٌ المكسب أيضاً: هذه الأفعال غير المسبوقة كل تلك اللحظات التي لا إرث لها وهؤلاء الرجال الذين لا يتركون شيئاً وهم على الرغم من ذلك سيصنعون التاريخ، كل ذلك التاريخ الذي يترسّب ولكنه بترسّبه لم يعد بحاجة للاستمرار بل سوف يتبخر، أليس على الأدب أن يُقدَّمٍ كتاب مُذكّرات غرفة تسجيل ومحفوظات أو مُستراحاً؟

الكلمات لا تطير بل تبقى، الكلمة لم تكن في البدء بل في النهاية، الحياة هي التي تمضي حياتي وحياة الآخرين،‏ لكنْ من حسن الحظ أنْ هناك النصوص الصيرورة ‏ النص للحياة التي تنقذ الأشياء قليلاً. هذا هو النص الذي أحلُّم به، هذا هو الكتاب الذي يتوجب علي أن أكتبه بطريقة أو بأخرى حول هذه الحرب، لقد أخطأ بلزاك بقوله: "ليست الكتابةٌ إعدامَ الأشخاص بل هي حظّهِم في الحياة". أخطأ سارتر أيضاً في تفسير معنى نقد العقل الجدلي وهو حوار مع مادلين شابزال) حيث يُقارن الكتب كتبه بنعوش صغيرة من الواضح أن العكس هو الصحيح، ذَّنَبُ الكلمات؛ ونعمة الأرشيف إِنّْها تكمّن في أن تصنع أرشيفاً كي تُعيد الكائنات إلى الحياة، هل هي نعمة هذه المذكّرات التي أَدوّنها؟ سَنرى.

الأحد 24 تموز/يوليو (كارلوس فيونتز فهم كل شيء)

رأسه النحاسي الجميل الذي ازداد نحافةٌ عن ذي قبل هذا الشباب الجديد، كما قال لي » يمنحُه شباباً، الرواية الضخمة التي يكتبها ويقول إنه كرّس لها جوهر وقته تحدثنا عن جان سيبرغ؛ التي كانت عشيقته، عن أب آرييل الذي كان صديقه، عن كالا ميكيز التي فقدت عقلها، وعن ذكرياتنا المشتركة عن أوكتافيو باز والشجاعة التي لزمته سنة 1978 كي يُنظَّم في المكسيك المتأثّرة ب «فيدل كاسترو» تلك الفترة جولة للفلاسفة الُجدد لكنّ الموضوع الذي يُزِعِجه ويرغب في الحديث عنه هو هذه القضيّة الليبية والوقت الذي أُسَخٌره لها.

قلتُ له بصوتٍ عالٍ كي يسمعني في جلبة البيت الصغير في مدينة نيس حيث كنا نتعشّى: "لا أتنبه لمسألة الوقت، أليست هذه هي حال كل الكتّاب الملتزمين؟ كحالِك أنت نفسك؛ في الستينيات والسبعينيات؟ حياتك كسفير للمكسيك في فرنسا والوقت الذي أخذته على حساب كتبك؟ وحين عَّينَ "دياز اورداز" جزّار "تلاتلولكو" سفيراً في مدريد واستقالتك الْمدوَيَة مع موجات صدمة وإدارة أزمة والإزعاج الدائم أتذكّر ذلك؟ ومؤخراً أيضاً هذا الهجوم ضدّ بوش الذي لا بدَ أنه أخذ حيّزاً في روايتك وضخ فيها طاقةٌ؟.

أجابني: "نعم ولا. ليس الأمر كذلك أبداً. فأنا لن أمضي مثلك أبداً في تفاصيل القضايا السياسية والعسكرية والدبلوماسية. ولم أعطٍ لنفسي أبداً كلل هذه الأدوار التي تُلصِقها بنفسك: أمير حرب وزير ثان؛ مؤرّخ أحداث ومُستشار ‏ مسرح لك وحدك، كوميديا للفنّ، العدّة الكاملة، هذا كثير على شخص واحد لكن تبدو أنك تقوم بكل ذلك هذا ممتاز."

قلت له: "لا أتنبّه لذلك فوضعي لا يسمح لي بقياسه، أحاول أن أقوم بالأشياء، تحملت مسئولية الدفاع عن هذه الحرب، وبالتالي أحاول مُتابعة الأمور، لذا تراني أقول: أتِيتٌ بشخصيات من بنغازي إلى الإليزية وإلى كليتتون تم أتيت بالقادة العسكريين؛ وبُمُقاتلي مصراتة ‏ والآن وداعا أسعدتَ مساء أنا ذاهبٌ لقضاء العطلة دبّروا أنفسكم، وخصوصاً.."

سأقول له إِنْ كتاباً سوف يصدر على أيّة حال عن هذه القصّة. طبيعي لا أصلح إلا لهذا لا أعرف بعد أيّ كتاب، لكنْ ماذا في وُسع كاتب أن يفعل حين تنتهي الحرب إن لم يشرع في الكتابة ويؤلّف عنها كتاباً بطبيعة الحال؟ لكنْ قاطعّتنا نيكول صاحبة المطعم: وهي نوع من آرليتتي من نيس ومن جانب آخر ساركوزية حين جاءت تُعبر لي عن خيبة أملها منذ قرأت في جريدة نيس مات أن تحالفي مع بطلها تحالف مرحلي لن بذهب إلى ما هو أبعد من نهاية الحرب في ليبيا..

"مرحلي... مرحلي... كيف يُمكن أن تقولي هذا؟ كنت اعتقد أن هذه الحرب تَهمّك كثيرا"

فويتتز هو الذي أجابها بلُطف وبأناة هو الذي شرح لها بجاذبية؛ وبفرنسية ممتازة درساً موجزاً عن تاريخ الّْمثقَفِين وأشكال التزامهم وعن الفروق الطفيفة والحيرة وكيف يُمكن أن يمارس رئيس يساري سياسة يمينيّة وكيف يصير رئيس يميني أكثر جُرأة من رئيس يساري وما معنى فعل سيامي وأنّه قد يحصل أن يتفرّق الناس على أنفسهم. ويجب أن يتحملّ المرء بقدْرٍ من النزاهة يجعله يعترف بهذا النصيب من العظّمة، وأنّ بالإمكان دعم رئيس الدولة في النهاية في جانب من سياسته؛ من دون دعمه في الجوانب الباقية..

هذا ما كنتٌ أقوله في عهد بوش للمُحافظين الجدّد الأميركيين هذا هو اللوم الوحيد الذي كنت أوجّهه لهم حين أشرح قائلاً: "اذا ذهبتم إلى المطعم مع صديق تختارون طبقاً واحدا ولا تطلبون كل الأطباق فلماذا بحجّة أنكم أردتّم الحرب في العراق تشعرون بأنكم مجبرون على تحمّل الحكم بالإعدام ونظرية الخلق والسياسة الماليّة للجمهوريين وحربهم ضدّ الإجهاض؟". عندما أدعم حرب ليبيا مُقرّراً ألا أتخلى مع ذلك عن شيء من اقتناعاتي وبالتالي أن أصوّت بعد سنة لمرشح الحزب الاشتراكي أقوم تماماً بعكس ما قام به المُحافظون الجدد ‏ والذي جعلهم يخسرون الانتخابات.

الضجيج لا يُطاق. لهذا توقفنا عن الحديث.

الأحد 24 تموز/يوليو؛ تتمة (وماذا لو عرف ساركوزي أن التاريخ مأساوية(

تذكرنا جملة ريمون آرون عن جيسكار ‏ ملمح النار؛ هذا سيقول ميتران في زاوية في جريدة الوحدة نهاية شهر أيْار/ مايو 1975 الذي كان يلومه لأنه لا يعرف أن «التاريخ مأساوي»، حسنا وأنا ألاحظ نيكولا ساركوزي، أستذكر كل هذه الأحاديث الهاتفيّة أو المباشرة التي أجريناها على مرٌّ هذه الشهور، ومن المؤسف أن يصعُب قبولها، هذا الرجل المسخرة هذا الاستعراضي من روّاد مقهى الفوكتس صديق الأغنياء هذا الأمير المبتذل الذي كتبتٌ عنه في بداية ولايته الخمسيّة، أنه لم يفهم شيئاً من القاعدة الذهبية الوحيدة قاعدة جِسَّدَي الملك بحسب "كتتوروفيتش" وحتمية انفصاله (كان بن عمّو قد حكى لي أن مستشاري الإليزيه تلقوا تعليمات بأنهم قرؤوا خلال عطلة نهاية الأسبوع الألف صفحة التي تكوّن هذا الكتاب حيث يبدو أنْ صديقاً سابقاً قال إِنّهِ يوجد سر مرموز بين السطور هو سرٌ السيادة التي لا يُّمكِن بلوغها) هذا الملك الذي يُطلّقَ ويتزوّج من جديد ويتحدّث عن زواجه في مؤتمر صحفي ويجعلنا شاهدين على غرامياته وشهواته؛ هذا الرئيس الذي يبعث رسائل نصيّة أمام البابا ويتضع إلى مستوى أن يقول لرجل أفسد عليه مشهد مُصافحة الجمهور في المعرض الزراعي: "انقلع أيها المُغفّل" هذا الرئيس الشاب الذي هو على عجل رئيس للجمهورية الخامسة الذي لم تكن له تجربة مُباشرة مع الحرب يُمكن أن نقول عنه

ما نشاء، وأكرر مرة أخرى أننا يمكن أن نصطدم بالباقي بكل الباقي من سياسته" لكنٌ هناك شيئاً يجب أن نُسلّم به هي مزيّة (لكن هل هي من جهة أخرى مزيّة؟) لا نستطيع أن نُجرّده منها امتلاكه لحس التاريخ المأساوي؟ فهو بالتأكيد يتمتّع بهذا الجانب «على شرط أن يستمر»؛ أو «لو كان أبونا يرانا» من نابليون إلى أخيه جوزيف، ‏ لكن أمام هذا الحدث المأساوي بامتياز أمام جوهر المأساوي الذي هو قيادة الحرب أمام هذه الهاوية، الهاوية الحقيقية التي لم نعُد نلعب في قعرها يملك؛ من دون شك الارتكاس المأساوي.

الأحد 24 تموز/يوليو تتمة (ما معنى المأساوي؟)

ينبغي الانتباه طبعاً.. لأننا ما إن نقول ال"مأساوي" حتى تنبثق الثنائية الشيطانية لنيتشوية السوقيّة (هزّة الوجود؛ الإنسان المتفوّق ديونيسيوس والمصلوب ومحبّة القدّر) وبمذهب شميت الرخيص‏ (قراره وسياسة كبرى والردّ على الإرادة بإرادة والسيف هو محور العالّم وإحساس العدوٌ وذوقه)  وجه مذهب "فاغنر" المزدوجٍ في السياسة. لكنْ هنا ليس هذا أبداً فنحن نتحدّث أنا أتحدّث عن تذكير ضروري فلا شيء مُطلّق

فكل شيء وليس كل شيء في هذا العالم صائر إلى الحل ويتصالح مع نفسه ويدخل بهدو في الثرثرة الكونيّة، والتاريخ لم ينته وليس صحيحاً أنه لم يعرف بعد إلا رجالاً أخياراً مدفوعين إلى هذا الحدٌ أو ذاك كي يتقيّدوا بقانون الإمبراطورية؛ والإرادة الكونية بتطهير العام وشفائه تتعثر بعَظْم، ليس بعظم خادع، ليس صورة عظم، عظم حقيقي يُؤخَد على أنه حقيقي؛ ومن المسّلم أن المشرّبين بالسكر والسكريين والمهووسين بالتفاهّم الكوني والتسوية سوف يخفقون وأنَ ثمة شر وبعبارة أخرى. يقول ساركوزي عن «الجنون» إن هذا الشرٌ وهذا الجنون في ذاتي، فيه هو ساركوزي؛ وفي ذاتِ كل منا لكنّهما موجودان بجرعات عالية في ذات القذافي وأنه حتى عندما يتملق وحتى عندما يتواضع يتقدم هو أيضاء بخطى حمامة، يبقى الشر شرا، وليس فقط ظل الخير، أتكلم عن أنَ التنسيق والترتيب والدبلوماسية المعممة لا تتغلب على كل شيئ، وأن رئيس الجمهورية المضحك لم يفعل شيئا  آخر خلال ولايته، ولن يفعل شيئاً آخر، كان سيفهم هذا بأعجوبة ويفعله.

الاثنين 25 تموز/يوليو (عندما وعدت طرابلس بمكافأة ن من يقتلني أو يأسرني(

حديث مع بوريس بوالون سفير فرنسا في تونس. يبدو أن التلفزيون الليبي وخصوصاً قناة الجماهيرية صبّت علي جام غضبها وأعلنت مبلغ 2.8 مليون دولار لمن يأتي بي مَيّتاً أو حيّا. طبعاً هذا غير مطمئن إطلاقاً. ليس فقط الُمدوّنات وصفحات الشبكات الاجتماعية وخطوط تويتر المكتوبة بالعربية هي التي تتمنى موتي بوضوح بل أحياناً الصفحات المكتوبة بالفرنسية أيضاً أو كما يُعلِنه موقع "الوطن الشجاع" لكن في الوقت نفسه...اعتيادي الطويل على هذا النوع من الاستفزاز...في زمن دانييل بيرل حيث تَبنّت الجمهورية خلال عدّة أشهر أن تحميني...فالمجموعة الجهادية الباكستانية التي أصدرت (من بيشاور وقد عانيت كلّ عذاب العالم لكنّي توصلت إلى تجنب أن تأخذ وكالات الأنباء هذا الخبر) فتوى صغيرة ضدّي... والصربيّون في عام 1994 الجريدة اليومية البلجيكية آخر ساعة؛ الصادرة في 31 كانون الأوّل/ ديسمبر من عام 2008 وعلى صفحتها الأولى وتحتها التعليق الآتي: "الهدف القادم لبيليراج (عبد القادر بيليراج» إسلامي مُتهم سلّفاً أنه قتل يهوديّين بلجيكييّن؛ وقاد عملية قتل أربعة يهود آخرين وقد عُثِرِ توا في مسكنه في بروكسل على قائمة بست شخصيّات كلها يهودية» وكان لي الميزة الْمريبة في أن يكون اسمي عليها)، وبصرف النظر ‏وهل لي أن أنسى عن «اللجنة الوهمية لُمقاومة الاحتلال اليهودي في فرنسا» التي بعد أن

فجرت مِسلّة جورج ماندل سنة 1978 في غابة فونتينبلو شمّعت واجهة جريدة اللوموند التي رفضت أن تطبع قائمة بأسماء حوالى عشر نساء ورجال سبق أن حكمت عليهم بالموت وكان اسمي عليها إلى جانب اسم سيمون فيايّ وأسماء آخرين (هذه هي الفترة التي كنت خلالها أقضي عُطَل نهاية الأسبوع في البيت الريفي الذي أعارني إيّاه أوليفييه أوربان لأتدرّب على الرمي)...إِنْه اعتياد طويل بما يكفي مع هذا كله، وفكرت بالفعل مجبرا في جديّة هذا النمط من التهديد, وإذا كان جديا في وسائل إزالته، أعرف الوقت اللازم لأناس نصف حازمين كي يُقرّروا عملية قتل وينقّذوها. فتجنبتُ أن أبقى خلال تلك الفترة في المكان نفسه في المدينة نفسها بل في سير الحياة نفسها تجنبت عاداتي. ورحتٌ أنظر حولي أعرف الخدعة التي تسمح حتى آخر دقيقة؛ بتجنّب ظهور اسمي على لوائح المسافرين في شركات الطيران.

فهنا كما في أي مكان آخر حل واحد: القتال والاحتيال ‏ والانتصار.

الاثنين 25 تموز/يوليو تتمّة (تنكرات لورانس)

إذ أعيد التفكير بالطريقة التي جلست فيها ذاك الصباح, في الإليزيه كما في المرة الأولى في شهر آذار/ مارس وكما في المرّة الثانية ليلة مجيء يونس إلى باريس بشكل عفوي إلى جانب الليبيين؛ لم يكن هناك أيّ شاهد، لا صحفيّون ولا مُصوّرون. وبالتالي لا هم تكتيكياً بالنسبة لساركوزي كاليسار واليمين والسياسة الفرنسية الخ. فعلت هذا غريزياً. والأدهى أنني الآن أيضاً حين أُعيد رؤية المشهد يبقى هذا بديهة الشيء الوحيد الذي يجب فِعلّه الموقف الوحيد الصحيح: لا أرى نفسي جالسا مقابلهم مع أهل بلدي الفرنسيّينَ ‏في مكاني الطبيعي من دون شك ومع ذلك ليس بمكاني! هل هذا هو نوع المواقف التي بعد أن نقوم بالتغييرات اللازمة ومن دون أن تُقارن, هنا أيضاء غير القابل للمُقارنة وجد لورانس نفسّه في مواجهتها طيلة فترة مُغامرته في الحجاز وسوريّة عندما كان عليه أن يخدم "سيّدّيه" بريطانيا والثورة القومية العربية؟ وهل هذا ما يريد قولّه مُجيباً أولئك الذين اندهشوا من رؤيته باللباس العربي يوم رافق فيصل إلى فندق "بونكنغهام" ومُعلناً أنه: «عندما يخدِم المرء سيّدّين وهو ُمجبَرَ على أن يُزْعِجٍ أحدهما فمن الأفضل أن يُدافع عن الأقوى بينهما»؟ ولورانس كان

في لحظة ما مُزَعِجاً كان عليه أن يكون حكما حقّاً مما لم يعد مسألة تنكر واحد بين سيّدين كان كل رهانه حتى الآن أن يخدمه بنفس القدر من الولاء. واختار في ذلك اليوم عكس ما اختاره في فندق بونكنغهام لأنه كان يُمثُل انجلترا لا العرب. ولو كنت في مكانه؟ فأيّ خيار كنتٌ سأختار؟ وما الذي سيكون مُعادل حرّجه؟ وفيما لو أنّ ساركوزي تراجع... وفيما لو وجب كما في البوسنة أن أختار بين العدالة من جانب والتاريخ الذي أراه جميلاً وجيّداً، وفرنسا من جانب آخر. الحمد لله لم تكن هذه هي الحال.

الثلاثاء 6 تموز/يوليو تتمة (الرحلة الخامسة إلى ليبيا:برعم وردتي(

طبرق من جديد. أو على الأصحٌ مدينة كمبوت في منتصف الطريق بين طبرق والحدود المصرية.

قمت بهذه الرحلة وحدي، وحدي بحزم وبشكل مُطلق.

فقط سيّارة في سالوم المدينة الحدودية ‏ كما في المرّة الأولى قبل خمسة أشهر هي الشاحنة الزرقاء الصغيرة التي تنقل الخُضار لكن من دون جيل من دون مارك ومن دون حرس شخصي ولا أحد.

لأنَّ ما أبحث عنه اليوم ليس في حاجة إلى شاهد.

هذا لا يعني أحداً غيري.

إنه أثر رجل لم أتحدث معه حتى الآن هنا والذي له مع ذلك مكانته وأية مكانة! ‏ في هذه المغامرة.

اسمه آندريه ليفي.

هذا الرجل الأكثر غموضاً الذي عرفته.

كان كما قلت يوم في رسالتي إلى هولبيك كتلة من الصمت والسرٌ.

كان هذا الرجل أبي الذي انتهيت بإدراك أنه لعب دورٌ المفتاح في هذه القضية قضيّني قضية التزامي برعونة؛ وببعض الجنون في الدفاع عن ليبيا الحرّة.

أبدأ من أوّل القصّة.

أو أبدأ بالأحرى من النهاية . لكن كي أصعد نحو البداية.

ثمة أندريه ليفي العصامي الذي يضع عام 1948 العام الذي وُلِدتٌ فيه الحجارة الأولى في الصرح غير المرئي الذي صار كما كتب مارك لامبرون ساعة موت أبي بأسلوب جميل؛ الملك السرّي.

 وثمّة قبل هذا في فجر هذه الحركة الذي سيطبع دخوله في مجتمع أصحاب الامتيازات المقاتل السابق في الحرب الإسبانية ثم الفتى الشيوعي الذي لا يمهل أحلامه؛ ولا استشاط غضبه ‏ فهناك «الساخط» وفي الوقت نفسه الذي يتحرّى الساخط «القائم» خلاله ورشات عمل الضواحي الحمراء عمل فيها كمُناورة وما إن بدأ العمل حتى بذر فيها الذهنية النقابية وعقليّة الإضراب الرديئة.

وقبل هذا أيضأ هناك الفرنسي الآخْرٌ الراحل إلى إيطاليا في شهر نيسان/ أبريل سنة 1944 مع رفاقه في الكتيبة الفرنسية الحرّة الأولى، الأسطورية التي بقيت حتى موته؛ السلك الذي افتخر دوماً بالانتماء إليه تحت أمرة رجل هو الجنرال ديبغو بروسيه؛ الذي هو وحدّه الرجل الذي لم أسمعه يقول «سيّدي»، وهناك الصبي حديث السِنّ نعم الذي لم أتمكّن أبداً من أن أقرأ هذا الشاهد من دون أن تغرغر الدموع في عيوني الشاهد الذي منحه إِيّاهِ رئيسه في  الحرب في 19 تموز/ يوليو سنة 1944, بعد دخول مدينة روما واندحار الجيش الألماني العاشر وخصوصاً بعد احتلال مونتي كاسّينو حيث عبّر عن شجاعة مُضمّرة: "أمّن هذا الموظّف في قسم الإسعاف المتطوّع دوماً ليل نهار وأياً ما كانت المّهِمّة: إخلاء الجرحى تحت قصف المدافع غير مبالٍ بأي خطر ماضياً عدّة مرّاتٍ للبحث عن الجرحى على خطوط الجبهة تحت نار العدوٌ الكثيفة".

ثم لكي يتضح في مونتي كاشينو وكي يُقاتل جنباً إلى جنب مع تابور وغومييه المغربيّين الصاعدّين للهجوم؛ ليس من السماء بل من تلك الطريق التي سدِّوها بطريق الموت والتي كان الالمان يظنُون حتى النهاية أنها لا يُمكِن بلوغها كي تكون هدفاً للهجوم النهائي؛ الذي سمح بين يومّي 11 و17 أيّار/ مايو تحت نيران المدفعية:؛ بتسلّق المسيلات العمودية لجبلي فيتو وماجو وصعود مُنحدراتهما الْموحِلَة وفي النهاية حماية البولونيّين الذين هم أوّل من رفعوا العلّم في قمّة جبل كاسان وكي يكون هذا الموظّف في قسم الإسعاف الجسور في هذه الفرقة البطوليّة التي يقودها الجنرال بروسيه؛ والني كانت هي نفسها مع الفرقة الُمدرّعة بقيادة لوكلير واحدة من الجيشّين الأسطوريين لفرنسا الحرّة وباختصار ثمّة من أجل أن يجد نفسه هنا في قلب المعركة سبيلان مُمكنان ممكنان تقنيّا وجُغرافيأ وواقعياً راجعت كل القصص التي تمكّنت من إيجادها عن الفرقة الأولى لفرنسا الحرّة. التهمتٌ مُذكرات الُمحاربين القدماء وأضفت إليها نفس المعلومات التي استطعت أن ألملِمها في حياته فوجدت أنَّ ثمّة لحظتّين كانتا ممكنتين مسارّين لا ثلاثة ‏ كلاهُما يقودانني ...إلى ليبيا!

تطرقٌ المحنة الرائدة وأحدّد هنا تُطرّق القاعدة نفسها للشخصين اللذين اسمهما أندريه ليفي؛ لهائج ورشات عمّل أو"برفيليه" كما لمن صار لاحقاً ملك ساحة سان فرناند الخفي.

المشهد «الإيطالي» نفسه برمّج حالات غضبّه كشاب مُتمّرد مُسرّح من الجيش وفي الوقت نفسه ينتمي إلى الأخوية الكبرى: التي هي أخويّة «الديغوليّينَ» التي ستّتيح له في الوقت المناسب أن يقول وداعاً لعالم العمال وأن ينطلق في حياة أخرى مدعوماً بتحالّفاته المتينة.

لكنّ الجوهري أنه؛ كي يصل إلى هنا كي يشتهر في ساحات المعركة في إيطاليا ويصير بعد إيطاليا هذا المّقاوم الُمتأرجح بين الشيوعية والديغولية وبين طريقتهما المُتنافستّين في تحدي النظام العالمي, اتخذ مسارّين ممَكِنَين وكلاهما ليبيّان.

استطاع الالتحاق بالفرقة مع فيضي المحاربين من جيش إفريقيا والفارين من فرنسا عبر إسبانيا ومن كورسيكا الذين وصلوا بين شهرّي حزيران/ يونيو وأيلول/ سبتمبر من عام 1943 بعد معارك تونس لحظة تحوّلها إلى فرقة مُشاة مُزودة بدرّاجات ناريّة وحيث استلم دييغو بروسيه. الذي حل حل كوينيغ؛ قيادتّها الفعليّة حينئذٍ قضى عدّة أشهر مُستقرًاً في زوارا على الساحل الليبيّ؛ على مسافة 50 كم من طرابلس و50 كم عن الحدود التونسيّة مُنتظراً الزحف الكبير على إيطاليا.

أو أنه التحق بها قبل ذلك بقليل في شهر شباط/ فبراير في الفترة التي كانت تتشكل الفرقة خلالها حيث لم يكن بروسيه إلا قائداً لها تحت أوامر الجنرال دولارمينا وأوامر أحد لواءيها  كان في هذا الوقت جزءاً من آلاف «اليهود المحليّين الذين قرّروا بعد "بير حكيم" مع كتيبة المشاة الثانية والعشرين في شمال أفريقيا أن يتركوا الجزائر للالتحاق بالجيش الظافِر، وهنا وصل في "كمبوت" على مسافة 60 كم بعد سالوم؛ و60 قبل طبرق في الطرف الآخر من ليبيا في المعسكر الهائل الذي ينزل فيه رجال بروسيه؛ وأيديهم على الزناد خلال شهرين وعدّة أيّام قبل أن يتحرّكوا باتجاه تونس وبالتالي باتجاه إيطاليا. لم يقل لي أيَا من هذّين الافتراضَين كان الصحيح وأين حدث تجنيده.

من جانب آخره لم يحدّثني عن أكثر من أفعاله الساميّة كحامل جرحى يتسلّق مُنحدّرات جبل كاسّان ليجمع عنها رفاقه الجرحى المحصورين بين خطوط القتال.

كذلك لم يقّل لي شيئاً عن "دييغو بروسيه" هذا البطل من أبطال فرنسا، مر هذا الشّجاع الذي حيّاه الجنرال ديغول ساعة موته سنة 1944 بوصفه "رفيقه"‏ لكن أيضا وهذا نادر بوصفه «صديقه» وأبي الذي خدّم العلّم تحت أمرته والذي أمضى شهوراً سواء في زوارا أو في كمبوته في الجزء الغربي من صحراء ليبيا أو في جُزئها الشرقي؛ بصّحبته في انتظار ساعة الانطلاق لتحرير إيطاليا ومن بعدها أوروبا.

هل لأنني لم أسأله ما يكفي من الأسئلة؟ أوأننا دوماً تُفكر بطرح الأسئلة الحقيقية بعد فواتٍ الأوان؟ أم لأنّه كان هذه الكتلة من السرّ ‏ وأنّه ككل الأبطال كان متواضعاً وكتوماً؟

لكنّ الواقعة هنا، واقتصرتٌ منه فيها يتصل بتفاصيل هذه الإقامة في ليبيا في أن أُخمّن وأفسر الإشارات الشحيحة الني وجدتها بعد موته واحتفظت بها بخشوع:

إشارة: هذه الصورة الجماعية، هم فيها خمسة؛ حيث حيث تُميّز البقعة الواضحة لخيمة وراءهم؟

وشكل مُبِهَم على يمينهم. قد يكون شكل رشّاش ذاتي الحركة وأبي الثاني إذا بدأنا من جهة اليمين هو الأصغر سنا حاسر الرأس على وجهه تعبير غير واضح. في مُنتصّف المسافة بين الابتسامة والقلّق لكنّ العلامة التي تهمِّني هي أنه كرفاقه في سروالٍ قصير وأنّ جاره الذي على يساره يضع قُبّعة مُسطّحة ودائرية بينها يضع آخر على الطرف الآخر للمُلصّق يحمل بندقية لي اينفيلد بريطانية ‏ أوَليس عدّم وصول مخزون البدلات العسكرية والأسلحة الأميركية إلا بدءاً من صيف 1943. دليلاً على أن المشهد يحدث على الأرجح في شهر شباط/ فبراير» وبالتالي هنا في كمبوت؟

إشارة: هذه الرسالة إلى البنت الفتيّة جدا الطفلة تقريبا التي التقى بها قبل خمس سنوات في بني ساف قبل تجنده الطوعي؛ في شهر أيّار/ مايو 1939 والتي أقسم لها بأنّه إذا عاش سيعود للبحث عنها والزواج منها، هذه الرسالة غير مؤرّخة؛ وختم الطابع على ظهر الورقة التوراتية الزرقاء ممحوّ لكنّها فعلاً كتابة أبي؛ إنها كتابته الُمتراصّة غير المقروءة تقريبا غير أنّها هنا أكثر وضوحا، وما تذكّرتُه منها بالإضافة إلى طريقته الرومانتيكية الغريبة أنه قال لمراسلته حين تركها أن عمرها كعمّر روميو وجولييت وذِكْر حمام في قلب الليل في بحر بلون المياه يقول لها عنه إِنّهِ يُذكّره ببحر بني ساف، والذي يجعلني أفكر بأنّه حتماً على الساحل وبالتالي على الجانب الآخر غرباًء في زوارا.

إشارة دوماً: هذه الرسالة الأخيرة غير المؤرّخة هي أيضا وثقب الطابع غير المقروءة حيث يصف خيمتّه المنصوبة على أرض مطار مهجور ويحكي أنه كان يجب عليه تنظيفها من آلاف المسامير والبراغي الهائلة والعناكب المعدنية التي بعثرّها الألمان قبل هروبهم وإذاً كما أفترض بعد بير حكيم؛ ومعركة العلّمين العام السابق ‏ كيف؛ هذه المرّة لا أتعرّف على هذه الأرض الغامضة في كمبوت, على بُعْد 5 كم من كمبوت حيث مررت قبل قليل وحيث لم يعُد من أثر لأيّ شيء كان لكنْ حيث أعلمني بدويّ عجوز أن طيّارات بريطانية كانت تحط منذ زمن بعيد بعيد جدأ؟ وكيف لا أحلّم أننا ننقاد هنا من جديد إلى افتراض شباط/ فبراير» إلى منطقة طبرق التي أُوجد فيها؟

في الأحوال كافة الموقف استثنائي.

في الافتراض الآخر الافتراض الثاني عرّف مدينة زوارا هذه التي كنت أرجو ذلك اليوم؛ إبان إقامتي في جبل نفّوسة أن ألمحها في المنظار المزدوج ورُبّما استطاع هو أن يرى في طقس صحو القمم الصخرية حيث كنتٌ وربما ذهب خلال إجازة يكتشف مغاور نالوت وكاباوا ورُبّما مرّ بغواليش أو مُقابل غواليش في قرية الأصباح التي ُيسيطر عليها جيوش القذّافي والتي كنت أتمنَى جدا أن أتمكن من زيارتها.

في الافتراض رقم 1 الأكثر قرباً من الحقيقة ذاك الذي تؤكّده الصورة والرسالة الثانية ركنّ هنا حيث أقف اليوم وحلّم وفكر وشرب من البئر المهجورة التي أخمن أنها على يمين المستوصف القديم، داس الْغبار نفسه ومشى بين البيوت نفسها وعانى تحت نفس الشمس الحارقة، محطُّماً نفس الحجر الداكن الذي سبق أن عانى كما يُعاني اليوم؛ كي يُمرّر نورّه الخاص فهنا علَّموه استخدام الألغام؛ وتقنية نزع الألغام؛ واستعمال قاذفات اللهّب والسلاح الأبيض وهنا تعلّم أن يحفر ويدفن نفسه ويقود سيارة في الصحراء وأضواؤها مُطفأة على الحصى وعلى إشارة البوصلة وهنا حشر نفسه للقتال ‏وللركض أيضاً من دون إطلاق نار تحت إطلاق النار؛ لتحرير رفاقه الذين حصدهم الرشاش.

وأخيراً في افتراض إمكان أن يكون الافتراضان مُتساويين: أي كلاهما على التوالي صحيح وبعد كل خطوة غير ممكنة في افتراض إمكان وجوده في كمبوت في شهر شباط/ فبراير ثُمّ في زوارا خلال الصيف وحيث يجب أن يكون خلال ذلك شارك في تونس في معركة "قنيطرة" وأن يكون عبّر ليبيا من الشرق إلى الغرب وقطع ال 1400 كم التي تفصل حدودي مصر وتونس وأن يكون منذ سبعين عاما حقّق مشروعي الحالي ورُبّما أوحى لي به خفيّة أراه ماشياً بين هذه البيوت التي يسحقها البؤس لابساً بدلته العسكرية غير المتجانسة حيث لابْدَ أنه خيّط شعار الشرف المشهور بلونه الأزرق الغامق المزين بصليب اللورين الأحمر. أراه واقفاً في انتصاره؛ أرى هذا «الفرنسي القوي» الذي يُريني دليلي الموضع الذي يجب أن يكون قد أقام فيه.‏

أرى هذا القبر المهمَل المهِدّم قليلاً الذي يوجد بقٌربه اليوم؛ جزء من نصّب على شرف الجنود النيوزلنديين الذين ماتوا من أجل الحريّة وحاولتٌ أن أُقدّرها بعينيه.

أسمعه يضحك هذه الضحكة غير المرحة التي لاينبغي أن تكون خاصّةً به ويتآخى مع رفاقه محتفظاً بمسافاته ويتطوّع للسّخرة مثلما سوف يفعل في السنة التالية لتجميع الجرحى تحت القصف. أسمعه يتظاهر بالفخر عندما يكون خائفا ويصطنعه لنفسه بمحض المصادفة ذلك الصوت الجميل الأصمّ ذا النغمة عديمة الأثر الذي سيّرافقه بقيّة حياته .

هذا وقفٌ على أولئك الذين يمتلكون قَوَةٌ إرادةٍ ألا يَروقوا أحداً.

ثّم أرى نفسي أناء ابنه ذلك الأسبوع؛ على جبهة اجدابيا أسمع مصطفى الساقزلي رئيس شباب بنغازي يقول إنَّ أوّل شيء يجب القيام به؛ في الصحراء حتى قبل القتال تعلّم الحفر والانقبار ورسم طرّق على الخصى والركض وقيادة السيارة على البوصلة أرى نفسي أنا الذي لا أعرف قيادة السيارة ولم أحفر أي حُفرة في حياتي ولم أمسك سلاحاً أبدا، إن أنا لم استجد هذه الحركات فعلى الأقلّ أفكار الحركات التي أسأل نفسي في موضوعها من أين استطاعت أن تُراودنٍي وهنا وعلى حين غرّة تبدو لي في غاية الوضوح ‏ ردود شاحبة لكنها ردود على أية حال على هذه الحركات الوهمية التي تُلاحقني من غير عِلّمي.

لَطالمًا شككتٌ بعضَّ الشكٌ في هذا النقل.

لقد شعرتٌ دوما أن في الطريقة التي اكتسبتها طيلة حياتي من بنغلادش إلى البوسنة ومن أرتيريا إلى دارفور وفي تصرّفي باسم قيمٍ عُليا شيئاً من هذا الإرث الأبوَيّ ومن إرادة أن أقيس نفسي به.

وحين كنتٌ أقول «مالرو» حين كنتٌ أعتقد في ما وراء التزامي بقضيّة البوسنة وشعرتٌ بيد أورويل أو منغواي غير المرئيّة كنت أعرف جيّداً أنني نمط آخر وأنّ هذا لم يكن موديلاً من ورّق.

 لكن في النهاية كنت أعلّم من دون عِلْم.

كنت أخمنه من دون أن أكون مُتاكداً.

ربما أجرؤ من جهة أخرى على صياغته ما دام الردٌ يبدو لي باهتاً بالُقارنة مع الاصل.

وهو نفسه عندما كنت أسأله متنبهاً إلى أن أقول عن الموضوع أقل شيء ممكن  ربما لأنّه كان يُفضّل أن يتركني في الارتياب أكثر من أن يُعرّضني لخطر هذا الانتهاك للسيّر الذاتية وللمُقارنة التي ستُذهلني حتماً.

هذا واضحٌ هنا.

ليس ثمة من شك بعد..

هذا مخيف بالتأكيد.. ذاكرتي تهتز قليلاً؛ لكنني سعيد في الوقت نفسه كما حين نركض كثيرأ ويُمكن أن نلهث.

هل كان ينبغي أن أصل إلى هنا إلى هذا العمّر كي أحصل على تأكيد ما كنت أمتنع منذ بداياتي عن صياغته وهذا ما فعله هو أيضاً؟

هل كان يجب أن تمضي هذه العقود تحت ناظريه من دون أن يفهم شيئاً من علاقتنا كي يجد في الوقت الذي لم يعد بيننا أو أنه لو كان بيننا فقد ضاع بين النجوم التي بدأت تطلع في سماء ليبيا سر الحركات التي خبّأها عني ونقلها إليّ وهو يُخِّبئها.

هذا ممكِن جداً.

لكل إنسان قصّته السرّية؛ ينبغي فقط أن يعرف كيف ينتظر. وحينئذٍ "بوتيل" هو الذي سيكون على حقٌّ ‏وهذا الموعد الليبي سيكون تماما كما كتب لي في البداية موعد حياة سيتم في هدوء.

الثلاثاء 26 تموز/يوليو تتمة (ظل دييغو بروسيه؛ الحامي)

قلت إِنْ أبي لم يذكر أمامي أبداً رئيسه دييغو بروسيه.

استثناء شديد الغرابة عادت ذكراه إلى هنا والآن, في هذا النزّل في كمبوت حيث توقفتٌ للمبيت ‏ كان الظلامٌ دامسا وليس هناك كهرباء وكنت جائعاً إلى حدّ يمنعني من النوم؛ لكن بقي معي في البطارية ما يكفي لأسجّل ملاحظاتي.

نحن في عام 1975 كنت قد صرفتُ من العمل في غراسيه بحُجّة غير المتوقع اليومية التي أسّستّها مع بوتيل أخفقت إخفاقاً محزنا، وبسبب أنني كنت أبدو بحسب أقوال إدارة الدار كمّن خبا نجمُّه.

قرّر أبي الذي عرف بالأمر عن طريقي أن القرار كان «أخرقٌ»؛ ومع الوقاحة التي كانت واحدة من علامات جلالته "الُمفرطة" أن يذهب ليرى ناشرة كتّبي فرانسواز فيرني التي لا يعرفها بأيّ حال من الأحوال ويظهر أنه ليس بينه وبينها أي شيء مُشترَك لكنه قال في نفسه أنه يستطيع أن يُقنِعها أوّلاً بآن شابَاً في الخامسة والعشرين لا يُمكِن أن "يخبو نجمُّه"؛ وثانياً بأنه يعرف معنى المشروع وأن مؤسّسة غراسيه ارتكبت خطأ بالاستغناء عن خدّمات ابنه العزيز.

نحن عندهاء في شارع نابولي ذات صباحا حيث كانت ما تزال على الريق. هي تُقَدّر بفضولٍ مشوب بالخشية ربّ العمل العظيم اللبق لكن القاسي الذي نتحمّل نظرته حتى قبل أن يُثبّتها علينا والذي لا علاقة لأساليبه إلا قليلاً بأساليب دار النشر.

وأبي هو الذي أصيب بنوع من السّكر مع أنه لا يشرب أبداً موجة غضب في الواقع غضب حادٌ شديد القسوة يبدو أنه سرعان ما ندم عليه غضب ينتزع منه بوجه خاص

هذه الجملة الملغِزة التي يبدو أنها من دون أن أعرف السبب جعلت محُدّثته تضطرب إلى حدٌ بعيد: «... ثم... ثم..  وأردف» وهو يقوم عن كرسّيه كما لو أنّه سيمضي: "تَمَّ إنّنا حين رفضتا دبيغو بروسيه. تجنبنا أن نتظاهر بالذكاء"

فماذا أتى ديبغو بروسيه يفعل في قضيّة تسريح شاب موظّف في دار نشر، وكيف كان يُمكن أن «ترفض» دارٌ النشر التي وظفتني قصّة هذا الجنرال بطل فرنسا الحرّة الذي مات سنة 1944 في حادث سيارة جيب؟

أبي الوفي لعادته لم يقل شيئاً آخر.

عُدنا مشياً على الأقدام على وقع هذه الخطوة البطيئة التي كانت لديه دوماً موهبة أن يُصبرني عليها لكنها كصوته علامة أخرى على جلالته حتى وصلنا إلى شارع سان فرنارد وخلال كل الطريق الطويلة مع ذلك لم يقل لي شيئاً آخر.

أمّا فرانسواز فيرني هي ذاتها كما لو أن ميثاقاً ضمنياً عُقَد هنا خلال عدّة لحظات بين أبي وبينها فأبدت سحنة مُتضايقة ولن تقول شيئاً فيما بعد وتتلافى الأسئلة كلما أعدت

الحديث معها في الأمر خلال الأيام والشهور اللاحقة.

الشيء الوحيد الأكيد أنهم أعلموني بعد عدّة أيام بإلغاء تسريحي بسبب "خبوٌ النجم" مُشترطين أن أقضي عدّة أشهر عقوبة في إعادة كتابة مؤلّفَات المفتش السابق روجيه بورنيش مدوقة بيدفورد وهكذا أعيد دمجي في كوادر الدار.

والكلمة الناعمة في القضية كلمتها الناعمة حقَا سِرَ هذا التقلّب العائد إلى تدخل فرانسواز فيرني؛ الذي يجب الإيمان بفصاحته؛ لكن الذي لم أعرف أيَاً من تفاصيله لدى صاحب دار النشر آنذاك؛ ابن أخ برنار غراسيه؛ هو برنارريا، لكني علمت بالتفاصيل لاحقا في زمن مُتأخر جدا وعلى دفعيّين.

في مسنة 1991 أُوَلا بينما كنتٌ أبحث من أجل فيلم تلفزيوني عن الْمثقَفين بشكل عام, وفي المقاومة بشكل خاص ذهبت لقابلة جان بروللر عن طريق فيركور الذي كان الشاهد الذي لا يُمكِن الالتفاف عليه على هذه الأزمنة غير المعقولة تحدّثنا بطبيعة الحال عن كتاب صمت البحر. منشورات miuit طبعاً، وعن آراغون الُّمسمى فرانسوا لا كولير وعن موريس الُمسمّى فوريز لكنّه حدثني أيضا ولم أعُد أعرف ذلك ربّما بسبب فرانسوا تحديدا عن أحد أعزٌ أصدقائه يُدعى دييغو بوسيه وأنّ مواهبه العسكرية لم تمنعه من أن يكون كاتباً وحتى روائياً في بعض الأحيان؛ وأنّه سنة 1927 قدّم لدار غراسيه مخطوطة روائية بدعم »هو بروللر» وبدعم "موريس" عنوانها سوف يُسامّح كثيراً ورفضتها...

بعد عدّة سنوات وخلال لقاءاتنا الثنائية أنا وفرانسواز فيرني التي سهّلتٌ لها بدوري العودة إلى دار غراسيه فقد تلقت بمجامع قلبها صدور رواية دورا برودر لباتريك مونديانو.

كانت قد وضعت في رأسها فكرة العثور بالتالي على آثار دورا برودر الخاصّة بها الصغيرة نيكول ألكسندر صديقتها التي شهدت اختفاءها من المدرسة الثانوية ذات صباح من عام 1944 ولم تعد إليها أبداً لأنها رُحٌلت إلى أوشفيتز وأُعدمت بالغاز. وبينما كانت تعكف بعد أن دفعها وساعدّها مونديانو الذي كتبت مُقدّمة مؤلّفاته بعد موته على كتابها هل سنكون أحياء في 2 كانون الثاني/ يناير سنة 1950 الذي سيكون آخر كتاب لها وقعته وهي تُكرّم؛ في الوقت نفسه بطريقة مؤثّرة رفيقتها التي تحوّلت إلى رماد ودخان شرعنا في الحديث للمرّة الأولى؛ عن العمق السياسي للقضية: مُعاداة الساميّة وفيشي وبالنتيجة وهذه الفرنسا الّحرة التي علمتٌ دوماً أنها ارتبطت بها ارتباطاً غامضاً عن طريق أحد أصدقائها (موريس كلافيل) أو عن طريق زوجها السابق (شارل فيرني) لكن أسرّت لي هنا أنها كانت عائلتها الحقيقية »

وكنيستها الثانية وكذلك مصدر إيمان في نفس حيوية الإيمان الآخر «الأم ماكرل» لدار النشر تلك التي دعاها فرانسوا موريس دوم ب «الآنسة الخيط» بسبب حُبّها للتحايّل والدسيسة. وأنها رمز الوقاحة وسّط «جماعة الأدب» وتلوثه واعترفت فجأةٌ بأنهما لم تتوقّفا عن تعرّف نفسيهما في هذه اللحظة من تاريخ فرنسا وتبجيلها سرّا وتحاولان حين تكون الفرصة مُواتية أن تكونا وفيتين لها، حتى جاء يوم كنت عندها في شارع نابولي » في نفس الصالون حيث استقبلتني مع أبي» عادت إلى موعد عام 1975 وقالت لي إن ؤكْر اسم دييغو بروسيه هو الذي ألانه يومئذ وحرّك مشاعره وأقنعه ‏ولهذا ضرورته.

يا له من زمنٍ سعيد استطاعت فيه عبارة «فرنسا الحُرّة أن تكتسب قوّة سحرية؛ حيث كانت العبارة ‏ فرنسا الحرة ‏ تشكل معنى ورابطاً في نظر الفرنسيّين من كل الآفاق وحيث كان اسم كل بطل من أبطالها قادراً على أن يكون كلمة سِرٌ بين كائنين مختلِفّين اختلاف آندريه ليفي وفرانسواز فيرني وجواز مرور لشاب ُحاول بعد خمسة وثلاثين عامأ بعد أن رحل الشهود كلَّهِم تقريبا أن يخلد أرواحهم؛ هنا تحت سماء ليبيا!

يتواصل