إعلان

تابعنا على فيسبوك

مذكرات برنار ليفي "يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي" ح22

خميس, 11/03/2021 - 00:06

 صورة سيف الاسلام الشخصية

أكبر لُغزِ روائي للقضية كلّها هو بوضوح سيف الإسلام؛ الابن الْمفضَل عند القذّافي وتلميذه و"لين بياو" القذّافي رفيق سلاحه الُمَقرّب وولي عهده.

لا أعرف الشيء الكثير عنه لم ألتق به أبداً غير أني أقرأ ما يُكتّب أتفحص منذ ستة أشهر مرّات ظهوره حتى لقد ذهبتٌ إلى لندن الشهر الماضي لأستجوب واحدة من خليلاته السابقات وعلى الأثر؛ بعض الذين عرّفهم في حياته الأخرى، حياة اللهو والاستهتار التي عاشها أيضا وكل الناس يُسارعون حسب الواجب لنسيانه وما رأيته وسمعته ومن النُتّف التي جمعتها وحاولت تسجيلها تنتج معلومتان جوهرّيتان غير قابلتّين للنقاش.

الأولى هي وجود هذه الحياة الأخرى، فهو قَذِر أجَل وهو رُجل حرب لا يعرف الشفقة طبعا وجُندي مُرتزِق قادر كوالده وقبل والده. على أن يتوعّد «الجرذان» التي تُكوّن شعبه بإغراقها في «أنهار من الدم». لكنْ قبل هذا أو بالتزامن معه كان ثمّة سيف المختلف المُغرّم بالمتعة. المُقبل على الحياة، رجل السهرات اللندنية المجنونة والعطلات الباريسية الجماعية التي تُكلّف مليون دولار في الليلة الواحدة ومٌرافق التزّلج في "زرمات" ومركب في "الكاراييب" والُغرم بسباحة المسافات الطويلة، صديق الأغنياء والحسناوات القريب من المتأنقين والأقوياء الذين يعدُّونه واحداً منهم، الشخصية المثيرة التي حدّثني عنها القبطان "يّاس" خلال إبحارنا صوب مصراتة. وهناك مجموعة من النساء من حوله وأوَّلها مجموعة اللندنية التي أدعوها كاتي وهي عارضة أزياء جميلة جمال إنكليزية بول موران تتَخِذ هيئة براءة مُصطنعة كانت تفعل العجائب حتى الأمس القريب في أعياد طرابلس التي لست مُتاكٌداً من أنه قادر على أن يدفع لها كي تأتيه إليها، وهناك الطالب السابق في مدرسة الاقتصاد في لندن التي تعود إليه الحياة الناجحة لرجال لامعين في التعليم البريطاني وتشريفاتهم فهو ليس ابن القذّافي وحسب. وهو ليس البشير طاغية السودان الذي لا يعرف لُغةٌ أخرى غير لّغة السلاح ولم يكن لديه من حل غير التشبّث بكرسيّه البائس، لقد كان سيف الْخصم وكان أمام هذا السيف أن يختار.

والثانية هي أنّه كان لديه بالفعل الخيار حتى وقتٍ مُتأخر وفي الحق حتى الأسابيع الأخيرة كان لديه واقعيا وسياسيا هذا الخيار. أريد أن أقول إِنَّ هذه الشبكة عملت بسرعة فائقة وأنّ جماعة من النساء وموظّفي مصارف الأعمال ورفاق المجون والفساد وأصدقاء تحرّكوا في لندن ودافوس ونيويورك وباريس وميلانو ومونتوفيديو لإنقاذ سيف وتخليص سيف وسحبه من هذا الفيلم الرديء الذي نراه يغرق فيه والإتيان به إلى أصدقائه الحقيقيّين، وأريد أن أقول أيضا وهذا أكثر أهمية أيضاً إِنَّ قادة التحالّف صِعقّوا إلى جانبٌ هذا التحرّك فإمًا أنهم بالغوا في تقدير وزنه السياسي والعسكري في الجهاز الُوالي له وبالتالي وعلى العكس بالغوا في حجم الصدمة التي سوف يُسببها التخلي عنه وإما أنهم قدّروا قيمته الحقيقية وقاموا بالحساب الدقيق ففتحوا له كل الأبواب ووفروا له كل المخارج ‏ من كاميرون إلى ساركوزي مروراً ببعض مسؤولي المجلس الوطني الانتقالي (أل يقلم لي ساركوزي هذا بكليات واضحة الأسبوع الماضي؟)؛ كل العالم أو تقريباً في الوقت الذي لا يتضامن مع والده؛ كان مُستعدَاً لمنحه الأمان وإعادته إلى حياته الأخرى حياة "غاتسبي" العرب التي كانوا يتمنون جداً أن يتذكّروها إذا وُعِدوا بإغفال أسمائهم وحياة طبقة الأغنياء في موناكو وأمراء المال النيويوركيين أو الباريسيّين الذين كانوا يعدّونه حتى الأيام الأخيرة واحداً منهم، القذافي كان محكوماً بالنهاية لم يكن منذ اللحظة الأولى ومهما فعل قادراً إلا على الاستمرار أو الموت، وهذا لا ينطبق على سيف، مدلّل حتى النهاية وعضو في نادي الأقوياء حتى ما قبل اللحظة الأخيرة لم يكن إلا عليه وحدّه أن يستفيق من هذا الكابوس الذي صارت إليه حياته، كلمة منه، إشارة، وسيتخلّص من القدّر الرهيب الذي يسير إليه الآن حتما وبصورة مأساوية لا إمكانية لتلافيه.

والحال أنه لم يقل هذه الكلمة، ولم يقُم بهذه الإيماءة. ولم يُمسك بالعصا التي مدّها إليه النظام ولكونه غير سعيدٍ بعدم الإمساك بها أضاف إليها الإثارة وتزيّد في الكلمات التي تقتله وتُعيّنه هو ذاته الطالب السابق في المدرسة اللندنية والعاشق المجَامِل الذي يبدو أن "كاتي" تتذكّره كهذا القاتل الشهيّ هذا المتوحٌش الذي لا يُعْتمّر له رُبَما كان هناك استثناء المساء المشهور من شهر نيسان/ أبريل حيث أرسل لي ذلك المبعوث من سلطنة لكنّه فعل كلّ شيء؛ بعد هذا فورا لكي يُسيء مُبادرته، ويحْرق آخر مراكبه ويتطلّع إلى نقطة اللاعودة التي لا يبلغها بوجه عام؛ إلا قسرا ومجبرا خالقا في الوقت نفسه؛ وهو يسند ظهره إلى الحائط "الموقف الذي يجد نفسه فيه اليوم" والذي لم يعد يترك له إلا خيارّين، وفي أحسن الأحوال: مصير كارافيتش أو مالاديك أوعلى الأفضل طارق عزيز الذي انتقل بين عشيّةَ وضُحاها من وضع إنسان كبير في هذا العالم يتفاوض مع أكبر الكبار إلى طريدة مشنقة يتوسّل؛ من أعماق سجنه؛ أن يُقدّموا له الخدمة الأخيرة بإعدامه دون أجل وبتخفيف مُعاناته، وفي أوسط

الأحوال؛ العذاب المحفوظ أحياناً للجلادين حين تنتهي ضحاياهم أو أولاد ضحاياهم إلى الإمساك بهم، أو أنهم يقعون في أيدي مجموعة مُتمرّدة لا يمنعها أي نداء من عبد الجليل أو من المجلس الوطني الانتقالي بأن تجعله يدفع نقداً هذه السنوات من القسوة. فهو المُقبل على الحياة، وَالمغرَّم بالمتعة، المعتاد على "الريتس وسان بارث" موقوف مُهان مُعذّب ومُلقى بالمعنى المجازي ولا سمح الله بالمعنى الواقعي إلى الكلاب التي كان يُريد أن يُطلقها على شعبه وشعبه يُعيدها إليه‏ هذا في حين أنه لم يكن يعتمد إلا عليه وأكرّر أن ينسحب من هذا الجحيم ويقول كفى.. هذا هو اللغز.

إذاً السؤال هو: لماذا؟ ماذا يُمكِن أن يدور في رأس رجل يختار اختياراً كهذا؟ ومن جهة أخرى هل هذا اختيار ‏ وإذا كان الجواب نعم فهو جواب مَنْ: جواب سيف؟ أو الآخر قرينه توأمه الرديء شيطانه الحميم لاوعيه؟

ثمّة افتراض العمى: اقتناعه كأبيه أن الأشياء ستنتهي بالحل والتحالّف بالملل والنظام على شرط أن تصمد العائلة؛ باستعادة موقعها الحقيقي في التناغم الأمثل للأوطان، وهو أذكى من أن يعتقد بهذا وعنده من فيض المعلومات ما يجعله يعرف, منذ البداية أن المعركة خاسرة سلّفا وأنّه حتى مع عودة خارقة للحظ.حيث تشكل جيوش الخصوم سلطة وتترك لعائلة القذّافي جزءاً من سلطتها فهذه السلطة ستكون رمزيّة على رأس بلد من خراب، ساقط الحقوق بين الأوطان بلا قيمة وهذا قليل الاحتمال.

وثمّة افتراض الانتحار: إرادة موت حقيقية وإن تكن غامضة نائمة وراء استهزاءات الشخصية ويُمكِن أن تجد هنا في سقوط النظام المُعلنْ والقيامة المُترافقة معه مشهداً لتقيس نفسها. رومنطيقي جداً، وفاغنري جداً، وبالتأكيد لا يتناغم فوق ذلك مع صورته هذه منذ عدّة أسابيع وأنا أعلم أن هذا تفصيل لكنّ كثيراً من الأشياء في هذه القضايا تقوم على التفاصيل؛ مُصرٌحاً لقناة تلفزيونية أن كل شيء يسير جيّداً؛ وأفضل من جيّد والدليل هو أنه عائد من سباحة لمسافة طويلة على أحد شواطئ طرابلس. كان هناك هذا الجانب الفيزيائي؛ في سيف الذي حدّثنا عنه القبطان "بّاس" خلال إبحارنا إلى مصراتة ‏ ولا أرى أن هذه الشخصيّة تموتُ "شهيدةً"‏ كأيّ مُتحمّس لعدم وجود العذراوات اللذيذات اللواتي ينتظرنه في الجنة، هذا عبّثي.

وثمّة خيار الكبرياء؛ أو بعبارة أفضل خيار آخيل: أن يعيش الإنسان حياة قصيرة باهرة أفضل من أن يعيش عُمراً مديداً، وحين يكون ابن ملك، وبعد حين ملكا حين كاد يصير الرئيس العصري لليبيا محدثة، وحين رفع الكلفة بينه وبين كبار رجال الدولة الأكثر احتراماً على وجه البسيطة، من الأفضل له أن يموت واقفاً ولا يعيش متمرّغاً بدور الملك فاروق أو بالدور الأسوأ لابن الملك فاروق يجترٌ المرارة والإخفاق وهذا هنا غير صادق ولا يتماشى مع وقاحة المتعة والانتهازيّة والافتقار إلى الضمير والمبادئ عند شخصية يؤكُد كل من عرّفها على العكس أنه لا يُمكن أن يرتاح في دور صاحب الجلالة في المنفى يقضي وقته من مونتي كارلو إلى سان موريتز في سحب فوائض حُكم بائد كان سيثير مشاعر الصفوة إلى أمد بعيد. لا يُخاطر كي لا ينتهي نهاية الملك كارول في رومانيا الذي مات تحت التعذيب والتنكيل والقهر كي يبوح بأسراره وكسرت أصابعه وشّنِق على علاقة ذبائح اللحام، فحتى القضايا الأكثر نُبَلا تخترع طرائق تعذيب، وهو يعرف ذلك.

وثمّة افتراض" دريو دريّو لاروشِل" الذي فهم منذ عام 1943 أنه أخطأ في المعركة وأنّ هتلر خبر الحرب وعرف أنّه يستطيع إذا أراد أن يلتحق في أيّة لحظة بالحزب الْمضادٌ (أوَ يقترح عليه مالرو في صيف 1944 أن يستقبله باسم مُستعار في لواء الألزاس واللورين وهكذا يُبرّئه؟) لكنه وجد من الأنسب إذ لم يعد على مستوى الصورة التي يرى نفسه فيها أن يمضي إلى نهاية خطئه ويدفع ثمنها ‏غندور الموت جاعلاً من موته الخاصٌ عمله السياسي الأسمى.. وهنا أيضاً لم يستقم الأمر، إذ يلزمه قليل من العظّمة طبعاً كي يُبرهن بهذه الطريقة، ومن الصعب علي أن أضمن في سيف أيّةَ عظمة كانت، كثيراً ما بحثتٌ وسألتٌ وفكرت ولم أرَ أيّ جُزْءِ من صورة ذاته هذه كانت ثمينة با يكفي كي يمضي من أجل الاحتفاظ بها إلى تخطي هذا الخط غير المرئي الذي انطلاقاً منه نتوقّف عن اللعب والنقاش والتفاوض، نحن أمام هذه المواقف الحدود حيث لم يعد بهم ويفعل إلا الحياة والموت، حذارٍ من تضخيم جرم لاشكٌ أبداً في أنّه عادي.

لا يُمكن أن تُحوّل المشكلة في الاتجاه الذي تُريد، ليس ثمّة إلا شرح واحدٌّ مُريح للرأي الْمسبّق لهذا الرجل الذي اختار أن يُغْلِق باب الخروج الباقي أمامه، ذلك أنه كان ينبغي من أجل تخطيه أن يجابه والِدّه ويُثيره ويتجرٌأ عليه ويُعارضه هذه المرّة. ما كان ينبغي فقط عدّم طاعته بل تركه لمصيره؛ تركه لجنونه، وقتْله، وربّما لاشيء أصعب على إنسان بشكل عام وفي ثقافته بشكل خاصٌ من أن يُقرّر قَتْل أبيه حتى عندما يكون هذا الأب قاتلاً، حتى عندما يكون هذا الدمويّ المجنون الذي هو القذّافي؟ طبعاً...حتى قد يكون أكثر من ذلك...ابن أمين دادا...عُدَي وقُصَي إبنا صدّام اللذان اتبعا جنونه البربري وسبقاه رُبّما كما يفعل سيف إلى موت فظيع.. شوقي تايلر ابن جزَّار ليبيريا تلميذ في الولايات المتحدة وغني مثل سيف من مشروع حياة آخر لكنه استجاب بدوره؛ لنظام الأب كي يأتي ليقود معه أكثر كتائب الموت وحشيّة...وأيّ غرَّقٍ يُواجه حين ينجو من الأب وعندما يواتيه الحظ بألا يموت، نيكولاي تشاوشيسكو الغارق في الدعارة والكحول، فاسيل الابن المضل لستالين وآخرون...

أتخيّل الأحاديث بين سيف والقذّافي، أتخيّل الابن يُحاول أن يقنع الأب ويضغط عليه ويتوسّل إليه.

أتخيّل طفل مدرسة الاقتصاد اللندنية التي أجزم بأنها لا بد أن تكون موضع كبرياء الأب وفخره الُمستشار الوحيد الذي كان الأب يُصِغي إليه أتخيّله منذ شهر شباط/ فبراير يتقاسم معه المعلومات التي كانت في حوزته والنصائح التي كان أصدقاؤه يُسدونها إليه، والإنذارات الأخيرة التي يُوجّهها المجتمع الدولي الذي كان دوماً إلى جانب الأب ومن أجله؛ الوسيط الْفضّل.

أتخيّله ملتحقاً بأبيه ليلآ تحت واحدة من الخيام التي لا حصر لها حيث يختبئ منذ بداية القصف، ومُبيناً له من جديد من خلال أحاديث مُسهبة لا تنتهي أن النظام ماضي إلى الهاوية وأنّه يجب التراجع والتحالّف والخروج بشرف من محنة لم تكن في ذلك الوقت قاتلة تماماً.

 أتخيّله أمام عناد الآخر حالما بآن يُزيل وهمه ويثور وينسحب حتى إِنّه يحضر نفسه سِرّاً للخيانة، لا ليس الخيانة، ليس خيانة بقدر ما هي فعل كل شيء لإنقاذٍ أب محبوب والتمرّد أمام عناده، ورفضه الغريب لسماعه؛ وتردده في مرافقته إلى الجحيم.

أتخيّله مُستنفدا حججه مُنهَكا، مُهتاج الأعصاب، نتيجة التوتّر المْخيّم على طرابلس ونتيجة حياة التائه التي لابْدَ أنه يعيشها في مدينته منذ بداية غارات الناتو أتخيّله محُتدَا

يستشيط غصَّباً . أجل! كانت هناك بالتأكيد لحظة قال لأبيه من خشية أو احترام أوحى إليه أبوه بها، وما كان هذا إلا مناورة أخيرة لإيقاظه انتهى كل شيء سأمضي أو بالأحرى إلى بيبي دوك؛ في النهاية أو ابن شاه إيران أو إلى أيّ مُرتاد ملاهي ليلية في مونتي كارلو واليانور والشهيد الذي لا أعتقد به أو إلى المحكمة التي سيْقدٌموننا إليها.

أتخيّل الأب حينئذ يُلقي آخر قُواه في الجلسة المغلقة هذه المعركة الغريبة صارخاً مثل بريام: «لا يا بني لن تمضي مكانك في جوار أبيك وهذا هو العرف منذ بداية الأزمان. وسيكون كذلك في طرابلس، ليس هذا أمرا بل نظام العالم والزمن اسكت وتراجّع».

وأتخيّل الابن مهزوماً يقول بعد أن تجرّع كل رغباته في التمرّد وصعقت كل أشكال مقاومته: آه! تحطيم الابن بدعوته إلى احترام ما باد من دواعي أواصر الدم والعرق أسهل بكثير من هزيمة جيش ثائر يتحداك في مصراتة والزنتان ‏ وهذا ما حصل.

هو إينياس أكثر منه أوديب.

هو اينياس ابن أنخيس الذي لاشيء يُمكن أن ينتشِله من ألسنة اللهب التي تهدد طروادة  لكن للأسف نحرقها معه وهذا مكتوب.

عليه أن ينسى كابري وباريس وملذّات كل الكابوا العصرية، والمال الذي يبقى منه الشيء الكثير الكافي لتغذية ألف حياة كتلك المحصورة به مهما كانت هذه الخطوة، هذه الخطوة البسيطة خارج الاغتيالات التي تُنفّذها كتائب الأب؛ ويستمرٌ في العيش ‏ وهذا لأنْ أصوات العالم الآخر تُناديه وتُذكّره بنحسه وهاويته ونزعة الابن الملعون وبمصيره المقلوب بهذا العالم القديم الذي لم يعرف أي تنميق وأيّ تقليد أخرق وأية مدرسة لندن لما لا يهمّنا أن نعرفه، أن تخنق استدعاءه، الذي طالما بقِيَ أبكم لكنه يصرخ حتى الموت.

من هذه القصة المجنونة قصة ابن الغرب بالتبني الذي نكتشِف في ساعة الحقيقة أن الرقم الجديد لم يمح شيئاً من الرقم القديم وأنْ هناك سابقة مُفاجئة. سابقة أعرفها جيّداً لأنني طالما درستّها وعن قُرب.

إنها سابقة طالب قديم في مدرسة الاقتصاد اللندنية "جلآد دائييل بيرل" وهو عمر الشيخ.

وها هو افتراضي هناك ملعونون، بالمعنى الخاص للملعونين أي أناس لن تمحو ضربة حظ المصير الُمختار أبداً مصادفة القانون الرديء الذي منحهم الولادة وغدا في النهاية ثوب القنطور "ناسوس" الذي يختنقون فيه.

الأمر هكذا.

هبطنا في بنغازي. سمحت لنا بذلك الإدارة المُزدوجة للناتو، وللمجلس الوطني الانتقالي وصلنا مُباشرةٌ إلى عاصمة ليبيا الحرّة من دون حاجتنا إلى عبور الحدود التونسية والمصرية السيئة، وهكذا تَجنْبنا كابوس الألف كيلو متر ونيّف على هذه الطريق الرديئة، المنطلقة من سالوم وطبرق ثم إلى البيضاء ودرنة وبنغازي... نحن دوماً نفس المجموعة الصغيرة وفرانسوا مارغولان الموصوف سابقاً وإلى غياب منصور الذي صار بدءاً من الآنء سفيرا ولم يستطع أن يتحرّر من التزاماته. بالإضافة إلى كريستوف وبريئو وأوليفييه ولوران ودومينيك، رجال شرطة النخبة الذين لم يتركوني منذ انخراطهم في حياتي يوم الجمعة المشهور قبل ثلاثة أسابيع من الآن في رأينا جميعأ هذا أكثر من توفير تعب، وهو أفضل، أفضل بكثير من توفير الألف كيلومتر ونيف التي كان ينبغي أن نتعارك معها في كل مرّة والتي؛ في كل مرّة؛ سواء في الذهاب أم في الإياب تتركنا مُنهَكين. إِنّه شعور بالحريّة

جديد إِنّه خلال اللحظة المُحدّدة التي تحط فيها الطيّارة وتبدأ بالاندفاع على مدرج المطار إحساسٌ بالغبطة التي تستولي عليك، وتُهلّل، إنها إذ تتعلّق بكل هذه الذكريات من المصيبة والكفاح والهزائم والجمود والشكٌ أحيانا، التي تنفرط في الأشهر الستّة الأخيرة لكنها هنا تتجمّع وتغزو ذاكرتي الثقة الثقة الأولى المتبقية بأن الحرب انتهت وأنّ من أرادوها انتصروا.

ومن جهةٍ أخرى ما كدنا نقلع حتى اتصلت بي ماري جويل وقالت لي إنها تلقت مُكالمة من جيرار لونغيه الذي طلب بأن يُكلّمني عاجلاً، وعندما اتصلت بقليْل من الصعوبة ويجب قول هذا لأنّْه إذا كان هناك شيء لم ينتظم منذ اتصالي بساركوزي في الخامس من آذار/ مارس من بنغازي فهي الاتصالات حتى بهواتف ايراديوم وثُريَا فوقعت على لونغيه في مُنتهى اللطف، ودود أكثر من اللازم ود أن يعبر لي (المرجع) عن امتنانه؟ بوصفه وزيرا  ومن خلاله عن امتنان الجنود الفرنسيّين؛ الذين التقيت بهم وأولئك الذين لا يوجدون؛ من إصراري؛ وحزمي, وانطلاقاً من هنا من مُساهمتي في هذا الانتصار الفرنسي الرائع، أنا لا أعرف لونغيه، وأظنٌّ أنَّ هذه هي المرة الأولى التي نتحدّث فيها. لكنني أتذكر كل التصريحات الأقلّ تشككاً التي استطاع الإدلاء بها على مرّ الشهور، أفكر بكل ما نُقِل إلي عن آرائه غير المْريحة التي يبدو أن نشاطي أوحى له بها، لكنْ حسناً، حتى لو كان كل شيء ممكنا فأنا أسعد مزاجاً من أن أترك هذه الأفكار السيّئة تتأكّلني، لذا اخترت ألا أتوقّف عندها وأن أَعِدَه آنا سوف نلتقي بشكل طبيعي فورعودتي إلى باريس.

الاثنين 22 آب/أغسطس (مرقّص الغرمانت)

طالما فتنني مرقص الرؤوس الذي يُكوّن قلب زواية الزمن المستعاد والذي يراه الراوي من جديد مُتجمّعاً لاستعراض أخير لكنّ التعرّف على الشخصيات غدا صعباً بفعل الزمن، وبفا خلفه من تلَفٍ على وجوهه، أو في أنفسها أو على العكس بفعل انبثاق الحقيقة التي كانت تحملها كل شخصيات البحث عن الزمن المفقود في داخلها لكنها التي لا بد أنها انتظرت آخر ساعة كي تتجلى .

وبعد فإنَّ تحرير بنغازي هو الزمن المْضادَ الُمستعاد ليس بمعنى أنَّ الشخصيات لم تتغيّرٌ لأنها تغيّرت بالتأكيد ولا شك في أنها تغيّرت في ستة أشهر ولن تتغيّر أبدأ أكثر مما تغّيرت خلال سنواتٍ وسنوات وبدّل أن يجعلها الزمن تشيخ أرجعها بمُفارقة إلى الشباب.

هكذا مصطفى الساقزلي الذي لم أرّه ثانية منذ اجدابيا ثُمّ خلال عودتنا العاصفة إلى باريس والإليزيه برفقة يونس ما تزال نظرته الغريبة هي نفسها ازداد بريقها قليلآً واستطاع وهُجُها المُخترّل حول ذاته أن يُتيح الشكٌ بقسوةٍ خفيّة وتلازمت معها الآن ابتسامة أكثر هدوءا وعذبة تقريبا تؤنسه.

وهكذا سليمان فورتيه الذي لم أفهمه إلا الآن وأنا أقارن معرفته الجديدة ومُزاحه الطفولي أو مع طريقته في التصرف كأنه مخرج أفلام؛ أجل ليس مهندساً معمارياً وحسب، لكن مخرج أفلام مخرج حقيقي؛ هيمن على فيلمنا ومنحه على سبيل المزاح أهميته الفعلية وأفكار الكاتب بكل ما أثقلته به من مظهر الحرب واستشهاد مدينته ورفاقه وهكذا الدكتور الميهوب الأستاذ القديم الذي نفاه القذّافي والذي نظْم لنا "عشاء القبائل" المشهور حيث  صدر "نداء الوحدة" الذي أخذته الصّحف الأوروبية الكبرى والذي قد يكون لعب دوره في التوحيد الفعلي لقبائل ليبيا ما كنت لأعرفه أبدأً حين ظهر فجأة في بهو فندق تيبستي وما كنتٌ لأستعيد وراء الشبح النشيط الراقص تقريبأ للشخص المجهول الذي يقترب من الطاولة حيث كنتٌ أضع مع علي خطّة سفرنا إلى طرابلس غداً صباحاً، العجوز الناحب السقيم الذي رأيته قبل ستة أشهر ‏ما كنت أبداً لأعرفه لا لولا صوته الغريب برأرأته التي كانت بمثابة توقيعه وما تزال.

أو دوّار الشمس الذي ظهر فجأة هو الآخر في فندق تيبستي في المكان نفسه؛ في زاوية البار ذاتها مُقابل التلفزيون, مثلا كان في المرّة الأولى لكنْ بدا لي شبحه القديم؛ في معطفه القصير جداً الذي يُظهره شديد النحول، الظل الُمسبّق، والطيف اْلمبتَسر للرجل ذي الصدّارة قصيرة الأكمام وللشبح المرح الذي يتقدّم نحوي هذا قبل أن يكون صوته شبيهاً بصوت الموتى الذين يتكلّم عنهم الراوي، وغدا صوت المسيو كاميروميرأو صوت بلوخ واستعاد الآن كما بفعل أعجوبة صوته الحيّ.

عندي حوالى عشر حالات أخرى كحالات هؤلاء، وصولاً إلى موظف الاستقبال في الفندق الذي كانت حركاته وطريقته في إعطائنا مفاتيحنا وإعادة جوازات سفرنا أو في دلنا إلى مركز إدارة الأعمال الذي لم يشتغل أبدأ، مُتحفظة، ومتوقفة، ومُوقَّرة، كما لو أنّهِ فقد القدرة على دفعها حتى النهاية، أو كأنه كان يتوقع في أية لحظة, أن تعبّر له عن عدم فائدتها هي نفس الحركات. لكن المُدمرة، الُضخمة المُعبرة من جديد المترابطة التي استعادت براءتها وسلاستها.

دوّنت هذا في سراييغو بعد رفع الحصار.

لاحظت هذا وإن كان بمقدار بسيط في كابول عام 2002: على الوجه الحزين؛ والمنفرج بمُفارقة: لمرافقي مسعود.

وهنا الشيء نفسه لكن بمشهد مُذهل أكثر كما لو أن هذه الحرب أو على الأدقّ هذا النصر الْمنتظر منذ وقتٍ طويل والمحلوم به لكنّه كان ميئوساً منه والذي تحققَ الآن في مُتناوّل اليد إِنّام أسس زمناً جديدا لم يعد «مفقوداً» ولا مُستعادأ بل مُكتسّبا وعلى "..." مخففا، مخلصا، رامياً عن كاهله العذابات والعوائق التي كانت تُكبّل كل إنسان.

شعرت أن بعضهم محا هذه الأشهر الستّة من الحرب وهو يستعدّ ليس ليعيشها من جديد بل لِيُعيد تمثيلها كما في السينما ويستخلص منها درساً. وآخرون تخال أنّهم عادوا أكثر رفعةً أيضاً أكثر صعودا صوب ينبوع أقدم من الينبوع الذي كان يُمكن أن يُخفيه القذّافي ولكنه في النهاية يسمح لنفسه بأن يتفجّر، وعلى غرار راوي البحث عن الزمن المفقود لا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل عما فعلنّه مُعجزةٌ الزمن إن لم يكن لكاتب هذه السطور فعلى الأقل لمرافقيه في رحلته: "جيل" الذي أراقبه خفيةٌ والذي استعاد في هذه الرحلة الأخيرة هيئته الطفولية التي كان يتحلى بها في أوّل رحلة إلى سراييفو.

الثلاثاء 23 آب/أغسطس (آخر حديث مع الرئيس عبد الجليل)

الوحيد الذي يخرج على قاعدة تجدّد الشباب المُعمّم إنّما هو مصطفى عبد الجليل.

هل بسبب التعب بالتحديد؟ أم زاهد رمضان؟ أم هذه الوفود التونسية والمغربيّة والتركية التي تهرع الآن إلى مدينته وتنتظر على بابه ويتعيّن عليه أن يعطيها من وقته؟ أم هو عبء السلطة والمسؤوليات الذي يرخي بثقله الهائل على كاهله والمصاعب التي تبقى والتي سيشقٌ عليه أن يُزيلها؟ أم أنه تواضعه الطبيعي واعتدال طبعه كما كان يقول القدماء، هذه السوداوية التي أدهشتني منذ لقائنا الأوّل التي لم يتوصل حتى في ساعة النصر إلى التخلّص منها كليًاً؟ أم أنه شيء مُعاكس تماماً؟ هل ماضيه هو الذي يُثْقِل عليه ويخيفه، ‏ نوع من القيد الأخلاقي الذي يمنعه من أن يسكن دوره كاملاً؟ غير أنه كان يصل بخطىٌّ حذرة بطيئة قليلا صغيراً جداً في طقم واسع للغاية، يغرق داخله قليلاً. أتحدّث عن طقمه الحقيقي طبعاً. لكني لا استطيع الامتناع عن التفكير بالآخر أيضاً الطقم المجازي طقم الدور الذي هو من الآن وصاعداً طقمه وفي داخله يغرق أيضاً.

جلس بجانبي على المقعد الخشبي الضيّق جداً في القاعة الواسعة جذَ الباردة قليلاً على الرغم من الصيف من المبنىٍ الرسمي الذي يوجد فيه مقرّه العام (جلس على طرف المقعد فاقدّ التوازّن تقريبا بالتحفّظ نفسه دوما وبنفس الترّدد في أن يشغل المكان الذي أتيح له وبنفس الضيق). نظر إلي بالكاد وشكرحضوري، شكرني طويلاً، وبحرارة من دون أن ينظر إِليّ حقا وكان دائم الخجل هيئته حزينة؛ وخائر العزم ‏ الرجل الذي لم يكن يُريد قطعاً أن يكون ملكأ ولم يخلق لهذا الدور, وليس لديه الكفاءات اللازمة بالمعنى الدقيق ومع ذلك هو هنا حاضر تماما يحمل البلّد من دون مساعدة.

نقلتٌ له الرسالة الشفهية التي كلّفني الرئيس الفرنسي بإيصالها والمتكونة من ثلاث نقاط، تحية لعناده وعناد الشعب الليبيّ في الوقت الذي يشكٌ بعضهم ويتساءلون على كل حال فهو لم يحد عن رأس الثورة وهذا متميّز، العزة لتحالّف الأنداد هذا الذي انعقد بين الشعبّين الفرنسي والليبي والذي هو أكبر من تحالف لأنه موسوم في المعركة المشتركة وفي الرجاء المتقاسَم، فما عدد الشعوب التي يُمكن أن يُقال عنها هذا؟ وأية مُعاهدات نشعر اليوم أنها كتبت بحروف من نار ودموع؟ ثُمْ هذه الرحلة المشهورة التي أرجئت عدّة مرّات لكن ساعتها قريبة هذه المرّة والتي تكتسب في نظره؛ هو نيكولا ساركوزي أهمية المُتعاظمة بما أن الزمن مضى، فلماذا لا نُحوّل هذه الرحلة إلى ثلاث مراحل تتطابق إذا وافق عبد الجليل مع مراحل التاريخ الثلاث كما حدث واقعيًاً، مرحلة بنغازي لأنّ كل شيء بدأ منها ومرحلة مصراتة لأن مفاتيح النصر كانت فيها وأخيرا مرحلة طرابلس العاصمة المحرّرة.

رد عبد الجليل بتكرار دعوته لنظيره الفرنسي أكثر من أيّ وقتٍ مضى طبعا بحسب الخط الذي يروقه؛ ولُننتظر بالضبط عدّة أيّام كي يكون البلّد آمناً، فأعاد قوله لي إِنْ الأواصر بين بلدّينا هي في رأيه أيضاً أواصر أخويّة مغموسة بأقدس ما تملكه الشعوب ألم تنعقد هذه الأواصر بين "بير حكيم وكفرة وزوارة وكمبوت" في المعارك التي خاضتها خلال السنوات السوداء في المرحلة الأكثر سواداً في القرن العشرين؟ وكيف لن نرى في أحداث اليوم في هذه الحرب الجديدة؛ أننا انتصرنا معا في هذا التحالف الذي رسّخناه معأ طريقة في أن نبقى أوفياء لأيمان آبائنا وأجدادنا الذين كانوا يُقاتلون أصلاً جنباً إلى جنب في الصحراء الليبية نفسها؟ وفيما يتصل بكلمة عناد (التي جعل علي يكرّرها له عدّة مرّات؛ كي يتأكد من أنه فهمها وكرّرها له جيّداً بالإنكليزية) فقد سمح لنفسه أن يُعيد الإطراء لنظيره الفرنسي لأنّه في النهاية هو الليبي لم يكن أمامه من خيار وكان مجبراً على التصرٌّف ومحكوماً عليه بالنصر أو بالموت، في حين أنَّ نيكولا ساركوزي لم يكن مجبرا على شيء وغير معني بشيء -ولا شيء أجمل من هذا العناد الْمنزّه عن الغرض في حرب لم تكن حربه بل كانت بالضبط حرباً عادلة...

الححتٌ لكن باسمي الشخصي عل أن تبدا معركة أخرى غدا كيف أعبر عن هذا؟

اليوم قبل الغد، ولتكن هذه المعركة ليس أقل حسماً من الأولى بل أكثر لأنها ستكون معركة السلام، الالتفاتة الجميلة التي قام بها في 21 آب/ أغسطس في هذه الساعات الحاسمة حيث كلّ كلمة يلفظها محفورة في مرمر التاريخ، مُعلناً لعناصر جيشه أن بإمكانهم أن يقوموا بأفعالٍ انتقامية، وأن هذا قد يكون سبباً لاستقالته، تحفُظاتي مع ذلك حين رأيته؛ بعد ثلاثة أيام يُقدّم 1,7 مليون دولار يُوفْرها رجال أعمال ليبيُون لمن يأتي بالقدّافي حيا أو ميتاً ‏ فقلت له ألا تخشى. سيادة الرئيس أن تُعيدوا للقذافي بهذا الأسلحة التي استخدمها القذّافي ذاتّه ضدّكم، الفاضحة بشكل نهائي؟ ثُمّ قضية الشريعة التي لست مُتأكّداً من أنني فهمتها تماماً فها معنى ذلك؟ وكيف سينسجم هذا مع الوعود السابقة بإقامة ديمقراطية أصليّة في ليبيا؟

حول النقطة الأولى أكّد لي أنه فهم أفضل من أيّ شخص الالتفاتات الرمزية التي سيّحكم بموجبها على النظام الجديد، وحول النقطة الثانية ذكرني بأن ليبيا لن تكون مكاناً آمناً لا لليبيين ولا للعالم إذا ما بِقيّ الطاغية في وضع مؤْذٍ، ‏ وقع كلامه بنبرة حاسمة مُفاجئة وكأنه يتيقَظ وقال إِنَّ لدينا معلومات تجعلنا نخشى «كارثة» ما دام مُستمرَاً في التنفّل بلا عقاب في هذا البلّد الذي لم يعد بلّده لأنه خارج على القانون فيه. أمّا قضية الشريعة، فانطلق في تطوير طويل للشرح ترجمه لي علي لكن رُبّما ليس بما يكفي من الدقّة ومع هاتفه الذي يرن كالعادة دون توقّف وبحسب ما فهمت ينتج؛ إجمال أنه إذا كانت الشريعة في الدستور إذا أشير إليها بوضوح بوصفها «مصدراً أساسياً» (وبالمناسبة ليست المصدر الوحيد) للقانون وإذا ذُكُر رسمياً بأن ليبيا بلّد إسلامي قديم لا ينوي أن يشطب ذاكرته فحدث النصّ في مكان آخر، إِنّه في مشروع دولة تضمن حرية الرأي والتعبير وحق التنقّل والتظاهر ووجود الأحزاب وشفافيّة الانتخابات واستقلال القضاء واحترام افتراض البراءة، وحرية العبادات للأديان الأخرى وباختصار مبادئ الديمقراطية كما نفهمها في الغرب، وهذا في ما عدا بعض الأشياء؛ هو ما أكتبه في هذه الملاحظات لكنّي أريد تدقيقه حينما شعرثُ أن الحديث أشرف على نهايته سمحت لنفسي بسؤالٍ أخير يُنقْصني منذ شهور. وإذ رأيت أنه يشجّعني بنظرته التي تكشِف شكا فضوليا رُبَّما كانت الأولى منذ بداية هذا الحديث الذي بقِي حتى الآن رسميا انطلقت سائلاً: "هل تتذكّر سيادة الرئيس لقاءنا الأوّل يوم تشكيل المجلس الوطني الانتقالي؟ أومأ برأسه أنْ نعم "اقترحتٌ عليك عصر ذلك اليوم» من دون تفويض وأوراق اعتماد من أيّ نوع وأستطيع أن أقوله لك اليوم؛ ومن دون أي ضمان بالنجاح بالتدخل لدى الرئيس ساركوزي وطلب مُساعدته." هزّ رأسه..

أيضاً، سؤالي بسيط: «بأيّ شيء فكدرتَ في تلك اللحظة؟ لماذا قبلت؟ وكيف وثقتَ بإنسان مجهول لا تعرف عنه شيئاً جاء من مكان ما واقترح الُمستحيل؟»

أخلى الفضول في نظرة مصطفى عبد الجليل؛ مكانه لبريق تسلية، حتى لقد تكون لديّ للحظة الانطباع بأنني استعدتٌ نظرة بيغوفيتش المرتاحة حيث ذَكْرتُه يوم أقلَتنا الطيّارة إلى روما لتُقابل البابا بلقائنا الثاني لا الأوّل عندما طلبنا منه رأيه في تأسيس فرقة دوليّة من أجل البوسنة  أو قبل ذلك بعشرين سنة نظرة مُجِيبٍ الرحمن أوّل رئيس لبنغلادش يوم حكيتٌ له القصّة التي كان يعرفها بالكاد قصّة مشروع فرقة مالرو الذي كنتٌ أوّل من وقف أمامه وفي النهاية المتطوّع الوحيد، بدأ بالقول: سأجيبك وسأفعل بأكثر ما أستطيع من النزاهة: "َأوَلَا وثقتُ بك رأيتٌ وجهّك وقرأتٌ في عينيك وماذا تُريد أن أقول لك؟ كان لك عينا رجُل نزيه، ولتعلّم أنّني أعرف البشر قليلاً، وكثيراً ما لاحظتهم وغالباً ما حاكمتهم ولم أخطئ وفي عينيك رأيتٌ بريق الصّدق ‏ كنت أجهل إن كنت ستنجح أم لا لكني كنت أعلم أنّك صادق وهذا في رأيي أهمَ من كل شيء لأنّ ثمّة بعد ذلك شيئاً آخر يا سيّد ليفي، أنا رجل مؤمن، أعتقد أننا جميعاً بين يدّي الله، وقد قال لي شيء ما أنّك إن كنت هنا فلأنَ الله شاء ذلك. أنت الذي كنتَ يا سيّد ليفي؛ أمامي، لكنّ الله كان الفاعل غير المرئي في لقائنا، ولو أني أخطأت، ليكن، فقد كنتٌ أخطى، لكنّ هذا لم يكن ليُغْيّر شيئاً، لأن الله يبقى هو الأكبر.

ولاشيء ولا أحد يستطيع أن يضع جبروته موضع شك.

أوشك الحديث هذه المرّة على نهايته حقاً. لأنّ وفداً تونسياً كان ينتظره، تّمّ قائد من فزان ينتظر منذ فترة طويلة، وقد أتى يُحذَّر من صراع إخوة في كفرة، وثمة رئيس حرّسه الذي رأى الدروع الواقية من الرصاص التي يضعها حُرَاسي الشخصيّون. ويُريد أن يُقنعه بأن يطلب نفس الدروع لأعضاء المجلس الوطني الانتقالي الذين سينتقلون إلى طرابلس، وبالتالي نهض، شعرت أنه قام مُتأسّفَا لكنّه نهض على أية حال، التقطنا آخر صورة تذكارية.

قِلِقّ على بقية رحلتي. قلق بلطف من نيتّي الذهاب إلى طرابلس، فقلتٌ له؛ لأنّ هذا هو آخر عنصر من الرسالة نسيتٌ إيصاله؛ وهو أن ساركوزي ينتظره وجبريل في اجتماع «أصدقاء ليبيا» يوم الخميس القادم في باريس، وبخطىّ وئيدة وبينما كنا نتحدّث عن هذا وغيره وصلنا إلى درج المدخل حيث يهيمن في حشد المُستشارين ورجال الأمن والسائقين جوّ النصر والغبطة.

لكنّ عبد الجليل حتى هذه اللحظة؛ ليس مُتناغماً، حتى هذه اللحظة يبدو حذراً متحفظا متيقظاً إلى عدم الانسياق وراء انفعال غير محسوبة، وانطلق من جديد بنفس الخطوات البطيئة الخجولة اُلمتردّدة التي جاء بها كما لو أنني لا أعرف أية حميّة سياسية تطلب إليه ألا يسرع في ساعة الفرح من حوله. عادت صورته في فندق رافاييل يوم عشاء الصحفيين حيث انسحب فجأةٌ تاركاً النجومية للعيساوي، كانت لديه أسباب موجبة ذاك المساء ليكون قلِقاً، كان موقفه مؤسّسا أوه وإلى أي مدى! على تَجنْبٍ إظهار الفرح، لكنْ اليوم؟ فما هذا القائد الحربي الذي ربح الحرب، لكنٌ الانتصار لا يُفرحه؟ وما هذا الرئيس الذي كان على حقٌّ ضدّ كلّ الناس والذي يجب أن يكون فخورا ويغتبط لكنّ انتصاره يُضايقه؟

أحِبّ هذه الطريقة في مقاومته قدّره الخاص أحِبّ فكرة الرئيس الذي لا يُظهر فرحه. أب أن يتذكر حتى في أوج الانتصار المهزوم الذي كاد يكونه، ربما تكمّن هنا عظمته الحقيقية.

يتواصل