سعت "إسرائيل"، منذ السنوات الأولى لتأسيسها، للحصول على مياه النيل عبر مشاريع ومخطّطات متعدّدة مدعومة أميركياً.
أراد الصهاينة أن تكون لهم حصة الأسد في مياه المنطقة بعد قيام الدولة العبرية، وهو ما تسنّى لهم في قرار التقسيم عام 1947.
في كل الأدبيات الدينية والأساطير التاريخية، يتوعَّد اليهود مصر بالانتقام منها، لأن الفراعنة طردوا موسى ومَن معه من بني إسرائيل، فغادروها إلى فلسطين.
وكان النيل دائماً عنصراً أساسياً في هذه الأدبيات والأساطير، حاله حال الفرات، بحيث يعتبر اليهود "ما بين النهرين أرضَ الميعاد التي وهبها الله لهم كشعب الله المختار". وكان النيل، حاله حال كل الأنهار في الأردن ولبنان وسوريا، موضوعاً أساسياً لكل المفاوضات السرية والعلنية بين الصهاينة وكلّ من بريطانيا وفرنسا، ولاحقاً أميركا، بحيث أراد الصهاينة أن تكون لهم حصة الأسد في مياه المنطقة بعد قيام الدولة العبرية، وهو ما تسنّى لهم في قرار التقسيم عام 1947.
وكانت المياه ضمن فقرات هذا القرار، الذي راعى حقوق اليهود في هذه المياه، التي كانت سبباً في جميع الحروب التي شنّتها "إسرائيل" ضد الدول العربية لاحقاً، فسيطرت على الجولان الغني بالمياه، وبحيرة طبريا ومزارع شبعا ونهر الأردن، بعد أن كانت المياه موضوعاً أساسياً في جميع مباحثات السلام، ولاحقاً الاتفاقيات التي وقّعت عليها "تل أبيب" مع القاهرة وعمّان، وحتى السلطة الفلسطينية.
وسعت "إسرائيل"، منذ السنوات الأولى لتأسيسها، للحصول على مياه النيل عبر مشاريع ومخطّطات متعدّدة مدعومة أميركياً. كما كانت المياه من أهم الأهداف التي وضعتها "تل أبيب" في الاعتبار خلال انفتاحها على الدول الأفريقية بعد احتلال فلسطين عام 1948، فأرادت من خلال هذا الانفتاح تضييق الحصار على مصر والسودان، وهو ما تحقَّق لها لاحقاً، وهو ما يجري اليوم.
كانت اتفاقية كامب ديفيد السبب الأهم الذي دفع عدداً من الدول الأفريقية، وفي مقدّمتها إثيوبيا، إلى التنسيق والتعاون مع "إسرائيل"، التي لم تعد عدواً لمصر والعرب، وفق الدعاية الصهيونية الناجحة.
ومنذ ذلك التاريخ، راحت "تل أبيب" تضع الخطط الذكية لكسب دول المنبع، وهي إثيوبيا وكينيا وتانزانيا وأوغندا والكونغو، إلى جانبها، بهدف الانتقام من مصر وإجبارها على الاستسلام، عبر استخدام مياه النيل ورقةً للمساومة والضغط، وهي على وشك أن تحقق أهدافها.
كانت الخلافات العربيةـ العربية، وتواطؤ عدد من الأنظمة العربية، وتهافتها على التطبيع مع "تل أبيب"، كافيةً بالنسبة إلى "إسرائيل" حتى تستفزّ رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد وتحرّضه على بناء "سدّ النهضة" والسدود الأخرى، حتى تتحكّم أديس أبابا في آخر قطرة من مياه النيل.
وأثبتت التطورات الأخيرة أن مصر ستكون تحت رحمة إثيوبيا، ولاحقاً تحت رحمة دول المنبع، التي تستمرّ "تل أبيب" في تطوير علاقاتها بها. وكل ذلك من أجل تركيع القاهرة، ودفعها لاحقاً إلى الاعتذار إلى اليهود، وربما تعويضهم.
ويبدو أن هذا الأمر سيتحقق لهم في ظلّ الواقع العربي المُزري، وفشل مصر في اتخاذ أيّ موقف حازم وحاسم ضد إثيوبيا خلال السنوات الأخيرة، وهو ما استغلته أديس أبابا، فانتهت من المراحل الثلاث لبناء السد، وهو الآن في مرحلته الأخيرة. كل ذلك بعد أن نجحت الدبلوماسية الإثيوبية، بدعم من اللوبيات اليهودية، في كسب دعم العواصم الغربية التي تجاهلت دائماً ردَّ الفعل، مصرياً وسودانياً.
فشل مجلس الأمن الدولي، في اجتماعه الأخير، في اتخاذ أيّ موقف مشترك، فأعلن أن الموضوع ليس من اختصاصاته، من دون أن ينجح الوزير المصري سامح شكري، المحسوب على واشنطن التي عمل فيها سفيراً، في الدفاع عن حقوق بلاده المصيرية، والتي باتت تحت رحمة أديس أبابا، كما هي الحال بالنسبة إلى السودان. فلقد اضطر الرئيس المخلوع عمر البشير أن يوافق على استفتاء الجنوب في كانون الثاني/يناير 2011، حتى لا يطاله "الربيع العربي"، فخسر ثلث مساحة بلاده في مقابل أن يبقى في السلطة عشر سنوات أخرى. لاحقاً، أطاحه العسكرُ بضوء أخضر أميركي ودعم إماراتي سعودي، ليعلن حكّام الخرطوم الجدد استعدادهم للتطبيع مع "تل أبيب" التي خلقت للسودان مشكلة دارفور، ثم اقتطعت منه الجنوب، وها هي الآن مستمرة في تقسيمه من جديد، عبر الحديث عن حُكم ذاتي لولايتي النيل الأزرق وكردفان.
في جميع الحالات، إنّ الغرب الذي منح، في تشرين الأول/أكتوبر 2019، رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد جائزة نوبل للسلام، بحجّة أنه أنهى صراعه مع أريتريا المقرّبة من "تل أبيب"، يبدو واضحاً أنه غير مبالٍ بأزمة النيل، ما دامت مصالحه مضمونة في القارة السمراء عموماً، والفضل في ذلك يعود إلى "إسرائيل" وأنشطتها المتعددة هناك.
أثبتت تطوّرات السنوات الأخيرة أن إثيوبيا هي البوابة الرئيسية لهذه الأنشطة، كما كانت منذ "الإعلان عن الدولة العبرية" عام 1948. لقد اعتبر بن غوريون عام 1955 "إثيوبيا وإيران وتركيا، بمثابة ثلاث رئات تحتاج إليها إسرائيل للتنفس في محيطها العربي الخانق".
ومع تناقضات السياسة التركية، التي شهدت عدداً من حالات المد والجزر في العلاقة بالدول العربية، جاءت الثورة الإيرانية بمثابة الضربة القاضية لحسابات "تل أبيب" الإقليمية، بعد أن خسرت الشاهَ الذي كان حليفاً استراتيجياً لها، حاله حال رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس، الذي التقى سراً بن غوريون في إسطنبول في نيسان/أبريل 1957.
وكشفت الوثائق السرية، التي كانت في السفارة الأميركية في طهران بعد مداهمتها في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1979، دورَ المخابرات الأميركية في تشجيع أنقرة وتحريضها على بناء عدد من السدود الكبيرة على نهري الفرات ودجلة، لتكون المياه ورقة مهمة في الضّغط على سوريا والعراق في حال عدائها لأميركا التي كانت تركيا حليفاً استراتيجياً لها.
وكان هذا التشجيع كافياً لتركيا كي ترى في دجلة والفرات نهرين عابرَين للحدود، لا نهرين مشتركين، ولتبنيَ على الفرات خمسة سدود تحتجز في بحيراتها أكثر من مئة مليار متر مكعَّب من المياه، وسدًين على دجلة، مع استمرار المشاريع لبناء المزيد. وكان تصريح الرئيس سليمان دميريل في تشرين الأول/أكتوبر 1992، يوم افتتاح "سد أتاتورك"، الذي قال فيه "إن العرب يبيعون نفطهم، ونحن أيضاً يجب أن نبيع مياهنا"، كافياً لتحديد ملامح السياسة التركية الخاصة بالمياه التي كانت، وما زالت، سبباً في أزمات جدية بين أنقرة وكل من بغداد ودمشق، اللتين لديهما علاقات سيئة بتركيا، بسبب تدخلاتها العسكرية المباشرة في سوريا والعراق.
وجاءت تصريحات المتحدث باسم الخارجيّة الإثيوبيّة، دينا مفتي، والتي قال فيها "إنّ العرب يبيعوننا النّفط بالدولار، فلماذا لا نبيعهم نحن المياه"، لتذكّر الجميع بأقوال دميريل، الذي تجاهل اعتراضات دمشق وبغداد، وردود الفعل الدولية، فبنى السدود. وهو ما فعله وسيفعله أبي أحمد، ومعظم مستشاريه من اليهود، أو بالأحرى من الصهاينة المؤمنين بضرورة الانتقام لأجدادهم، كما هم يقولون، ومن دون أن يكون واضحاً ما الذي تستطيع أن تفعله القاهرة في غياب التضامن العربي، وسببه أساساً هو السياسات المصرية منذ "كامب ديفيد".
هذه السياسات ما زالت مستمرة، في كل تناقضاتها، ويبدو أن الرئيس السيسي لا ولن يستطيع التراجع عنها، لأسباب متعدّدة. وإلاّ فلمَ تردَّدت القاهرة في المصالحة مع دمشق، والتنسيق والتعاون معها، ضد الخطر المشترك، ألا وهو "الإخوان المسلمون"، وكل من هم تحت مظلّتهم من الجماعات المسلَّحة، المتطرفة منها والمعتدلة. وتهرَّب السيسي من نقل هذا التعاون، فرجّح عليه التنسيق والتعاون مع الإمارات والسعودية، اللتين كانتا تتسابقان إلى التطبيع مع "تل أبيب"، التي هي السبب الوحيد في كل مشاكل مصر منذ ثورة 23 تموز/يوليو. ويبدو أن السيسي لا يريد أن يتذكّر ذلك!
وهو يدري أن التحالف مع الأردن والعراق لا ولن يساعده على مواجهة إثيوبيا، ومن خلفها "إسرائيل"، حتى لو كان الملك عبدالله هو أول زعيم عربي يحلّ ضيفاً على الرئيس بايدن، ليلحق به مصطفى الكاظمي، رئيس وزراء العراق. وكان العراق من حصة آل هاشم كالأردن، في اتفاقيات "سايكس بيكو". كما كان البدان معاً طرفاً في "حلف بغداد" الذي أسسته بريطانيا عام 1955 مع تركيا وإيران لمواجهة المد القومي العربي. ويبدو أن السيسي لم يعد يتذكّر أي شيء منه!
يبدو هذا النسيان، أو التناسي، كافياً بالنسبة إلى إثيوبيا، ومن خلفها "إسرائيل" وحليفاتها من الدول المتواطئة، حتى تستغل نقاط الضعف المصرية حتى النهاية؛ أي نهاية مصر الحتمية. ويبدو أن حكّامها لا يعون هذه الحقيقة، التي يؤمن بها اليهود!
حسني محلي- الميادين نت