باستِنجاده بالمَحروقات الإيرانيّة، وتلبية إيران الفوريّة للنّداء وإرسالها النّاقلات فورًا مُحمَّلةً بالبنزين والمازوت، أصبح السيّد حسن نصر الله، زعيم المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة، اللّاعب الرّئيسي على السّاحة اللبنانيّة، وربّما العربيّة أيضًا، فبهذه الخطوة المحسوبة جيّدًا، سيَكسِر الحِصار، ليس على لبنان فقط، وإنّما على سورية وإيران أيضًا، وبِما يُؤدِّي إلى وضع أمريكا وحُلفاءها اللّبنانيين في حَرِجٍ كبير، إن لم يَكُن هزيمةً كُبرى، ودُون أن يُطلِق رصاصةً واحدة، حتّى الآن على الأقل.
نشرح أكثر ونقول إنّ الغباء الأمريكي، والغطرسة الإسرائيليّة، وسُوء حِسابات أدوات الجانبين في لبنان، والحِصار التّجويعي الذي اعتقدت هذه الأطراف الثّلاثة أنّه سيُؤدِّي إلى تركيع الشّعب اللّبناني وتحريضه ضدّ “حزب الله” وسِلاحه الصّاروخي الجبّار، وإشعال فتيل الحرب الأهليّة لاستِنزافه، وحاضنته، اقتِصاديًّا وعَسكريًّا وبشريًّا، كلّها فشلت في تحقيق أيّ من أهدافها، وأعطت نتائج عكسيّة، والأخطر من ذلك رفعت من شعبيّة الحزب وأمينه العام في أوساط اللّبنانيين والعالمين العربيّ والإسلاميّ كرَجُلٍ يستطيع أن يقول “لا” لأمريكا.
***
ما زال من غير المعروف كيف ستَصِل هذه النّاقلات إلى الشّواطئ اللبنانيّة، وأين ستُفرِغ حُمولتها، في مرفأ بيروت أم مرفأ صيدا في الجنوب، أم ستتجنّب المرفأين وتُفَرِّغ حُمولتها في ميناء بانياس السّوري، ويتم نقل حُمولتها بالشّاحنات إلى لبنان؟ والسُّؤال الآخَر المُهم هو هل ستَمُر هذه النّاقلات الإيرانيّة عبر قناة السويس، أم سيتم إغلاق هذه القناة بوجهها بضَغطٍ أمريكيّ إسرائيليّ، ولمصلحة شُحنات النّفط والغاز المِصري المَوعودة؟
في حال وصولها إلى شرق المُتوسّط، سواءً عبر قناة السويس (بعد ثمانية أيّام)، أو عبر رأس الرّجاء الصّالح (40 يومًا)، كيف سيكون ردّ الفِعل الأمريكي والإسرائيلي في الحالتين؟ ضرب هذه النّاقلات في عرض البحر، أم ضرب صهاريج نقلها على اليابسة في حال ذهبت إلى المرافئ السوريّة وأفرغت حُمولتها فيها؟
لا نملك أيّ إجابة عن جميع هذه التّساؤلات، ولكن لا يُخامِرنا أدنى شك، بأنّ ثلاثة أطراف في محور المُقاومة فقط وهي إيران وحزب الله وسورية هي التي تملك الإجابة والتّفاصيل العسكريّة المُحتَملة، سواءً المُتَعلِّقة بأيّ هُجوم أمريكي إسرائيلي مُحتَمل، أو كيفيّة الرَّد عليه في حالِ تنفيذه، فهذه الأطراف الثّلاثة تُبقِي أوراقها قريبةً جدًّا إلى صدرها، وتتَكتّم على التّفاصيل، وألقت بهذه القُنبلة، وأربكت الخُصوم، وباتت في موقع المُراقب المُتَأهِّب للرَّد سِياسيًّا أو عَسكريًّا، حسب الظُّروف والتَّطوُّرات.
أيًّا كانَ الرّد الإسرائيلي الأمريكي سياسيًّا أو عسكريًّا، سيكون مُكلِفًا جدًّا، فالسيّد نصر الله قال إنّ هذه السُّفُن الإيرانيّة ستكون خاضعةً للسّيادة اللبنانيّة، وأيّ اعتِداء عليها هو اعتِداءٌ على لبنان وخرقًا لسيادته، أمّا إذا فضّل الجانبان الإسرائيلي والأمريكي ابتِلاعه هذه الإهانة، ولجأوا إلى فرض عُقوبات اقتصاديّة على لبنان أو حزب الله، أو حتّى إيران بتُهمة انتِهاك الحِصار، فماذا ستفعل هذه العُقوبات، وما هو تأثيرها لشَعبٍ جائع مُنذ أشهر ولا يملك ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا خبز؟
السيّدة دوروثي شيا، حاكمة الشَّق المُتواطِئ في لبنان، تذكّرت فجأةً حجم المأزق الذي وضعت بلادها فيه، وأعلنت عن استِعدادها لتوفير الغاز والنّفط المِصري، والكهرباء الأردنيّة إلى لبنان في مُحاولةٍ لإجهاض الانتِصار الكبير لحزب الله ومحور المُقاومة، ولكنّها نسيت في غَمرةِ ارتِباكها أمْرًا مُهِمًّا وهو أنّ هذا الغاز يحتاج وصوله أوّلًا إلى تَحضيراتٍ لوجستيّة فنيّة قد تَستغرِق عدّة أشهر، والتّفاوض مع سورية صاحبة الأراضي التي سيَمُر عبرها وأخذ مُوافقتها ثانيًا، والتَّأكُّد بأنّ هذا الغاز ليس مخلوطًا أو مُلوَّثًا بالغاز الإسرائيلي الذي يَمُر عبر تلك الأنابيب ويُعالَج بالمعامل نفسها ثالثًا، والكلمة الأخيرة ستَكون للرئيس السوري بشار الأسد.
الحِوار مع سورية وحُكومتها، ومُرور الكهرباء والغاز عبر أراضيها في حالِ تَوفُّر كُلّ الشّروط القانونيّة واللوجستيّة والسياسيّة، يعني كسر “حِصار قيصر” وبإذعانٍ أمريكيّ ولن يأتي دون مُقابل، فما هو المُقابل الذي ستطلبه الحُكومة السوريّة وستُصِرّ عليه من الجانب الأمريكي صاحب هذه المُبادرة؟ رفع حِصار قيصر مَثَلًا؟
***
السيّد نصر الله وبدَهاءٍ شديد، وضَع أمريكا وإسرائيل وحُلفاءهما في لبنان في مأزقٍ شديد في إطار جُهوده لإنقاذ الشّعب اللّبناني من أزَماته الخانقة عبر مُبادرة محسوبة جاءت بعد إدارة مُتميّزة للأزمة، ورمي الكرة في ملعب خُصومه، وجلس يُراقب عن قُرب ارتباكهم ورُدود أفعالهم، وواضِعًا إصبعه على الزّناد في غُرفة عمليّات مُزدحمة بالخُبراء السّياسيين والعَسكريين.
إنّها معركة عضّ الصّواريخ، ومَن سيُطلِق الصّاروخ الأوّل، وهي معركة قد تقود إلى هَزيمةٍ أُخرى لأمريكا وإسرائيل، تتواضع أمامها الهزيمة الأفغانيّة.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان