في مثل هذه الليلة 2011.10.20 كنا متحصنين في بعض نواحي مدينة الجهاد بني وليد، وأيدينا على البنادق التي لم تعد فيها غير بعض الرصاصات، وكثير من الصمود.
كنا ننفذ أمر الإمام بالثبات في جبهة بني وليد بعد سقوط عاصمة البلاد قبل ذلك.
وقفت البلدة بمهابة أسطورية في وجه ضربات الناتو الجوية، ووحشية عصاباته البرية، لشهرين كاملين.
صارت "الرصيفة" ببني وليد و الحي رقم 2 بسرت توأمين في التاريخ.
وكان أجمل شباب ليبيا، وبناتها، قد استشهدوا على تراب ورفلة، يتهجون اسم الوطن، ويتمتمون بالنداء المقدس: لن نسمح أن تضيع ليبيا في غوط الباطل.
وعلى تخوم البلدة الخارجة كان "خميس" ورفاقه قد سبقونا إلى الجنة التي وعدنا بها الكتاب.
أما في تخومها الداخلة فكان "سيف الإسلام" ، وألف سيف للإسلام، يعانقون بيوت "الرصيفة" وأحجار "غلبون" وزيتون "دينار" وهم ينازلون الظالمين بالصبر والرصاص.
وحين نفذت الذخيرة أو كادت، واشتدت ضربات "الدرون" الغادرة، واهتزت أرجاء "السوق" من حمم الصواريخ المجاورة، سقطت المدينة، مثل "فلوجة" ليبية دامية، يوم 2011.10.17 ليدخلها الأنجاس بشباشبهم وسحناتهم الكريهة التي رسمها برنار ليفي في مخيلته الصهيونية الخصبة.
قرر المدافعون عن الجبهة الوليدية أن يتفرقوا في اتجاهات عدة، البعض قصد العربان في أرض الجبل، والبعض إلى نواحي ترهونة، وآخرون إلى وديان الجنوب.
وبقيت ثُلّةٌ في المدينة، كنتُ منهم، ليس شجاعة استثنائية أو موقفاً عسكرياً بارعاً، بل لأننا كنا نعرف أن مصيرنا قد وصل إلى منتهاه في هذه المدينة المباركة.
قال أحدنا: لم يكن يخطر لي أنني سأموت وأدفن في جبال بني وليد، أنا ابن الساحل الليبي والشط والرمال!
كان اسمه وليد، وعاش، بالمصادفة البحتة، ولم يدفن في الجبال!
وقال آخر، وكان اسمه الشارف، اضبّطوا (عانقوا) هذا التراب. وفعل هو ذلك أولاً لأن الله أحبه أكثر منا و "دار له واسطة عيني عينك".
وفي اليوم الثالث لسقوط المدينة سمعنا الخبر المفجع باستشهاد الإمام، ورفاقه، في جبهة سرت وانتهاء المعركة الوطنية حينها.
بكى الرجال جهراً في بني وليد، وفي الوديان، وصلينا صلاة الغائب جماعة.
لم أرهم يبكون جهراً قبل ذلك، حتى حين مزقت القنابل أجساد أبنائهم او إخوتهم أو رفاقهم في ساحات القتال أو ميادين "السوق" ، حي المدينة الأوسط.
قال لي رفيقي الأخير الذي حوصرت معه في "السوق" : مات وهو راضي علينا!
قلت: والآن نموت ونحن راضون.
كان هو أباً لبنتين صغيرتين.
وكنت أنا أباً لولد واحد لم يتكلم بعد.
قلت له: عندك الإذن، أطلع!
قال: يا نطلعوا جميع، يا قعدنا ولحقنا بالشارف بوقنيدة ومعمر القذافي، وبقية الرجال!
بقينا متحصنين بحجارة بني وليد، وحميمية معمارها وديارها، إلى يوم 2011.11.07 حين قررنا أن ما بأيدينا من رصاصات يسمح لنا إما باختراق خط العصابات الناتوية، أو الارتماء مضرجين بالموت على مخارج المدينة الحبيبة، ويا له من ارتماء سيكون في أحضان فاتنة جميلة مثل بني وليد!
استشهد العشرات منا في عمليات الانسحاب خارج المدينة، وتمكن بعضنا من مخادعة رصاصة مُسدًدة، أو صاروخ موجه، أو قذيفة طائشة.
وتركنا وراءنا وطناً في غوط الباطل، وتاريخاً ناصعاً لنا، وإماماً قال سأموت هنا! ومات هناك!
ولكننا بهذا الوطن، والتاريخ، والإمام، نشد عزائمنا اليوم، وننهض من ركام الباطل وننتصر، ليس بالحقد، ولا بالثأر، ولا بتجيير المعركة لصالح الأفراد والقبائل الداخلة أو العدو الخارجي.
بل باستعادة روح الوطن، وفكرة الانتماء، ووعي الإنسان.
هذا يعني استعادة وبناء القيمة الوطنية ضداً على العمالة للبراني، ثم تجاوز الوجع، وتضميد الجراح.
هذا يحتاج إلى موقف فكري ونفسي استثنائي يستلهم معمر القذافي نفسه، ويمضي بليبيا إلى الأمام لا إلى الوراء.
موقف بصلابة المعركة، ولكنه يخترق القلوب، قلوب الناس، بمعاني الوفاء والمجد والحقيقة التي هي ليبيا الواحدة،
ليبيا السيدة المطمئنة والواعدة بالخير والنماء للأجيال القادمة.
هكذا تصبح 10.20 ميلاداً جديداً ينبثق من ركام الموت الذي واجهناه في 2011 بطمأنينة غامرة.
موسى ابراهيم