في برنامجه السياسي على قناة المرابطون، الناطق غير الرسمي، بسم حزب تواصل المعارض استضاف سياسي حقوقي رئيس جسم سياسي معارض، وليد لمّا يحظ بالشرعية. في هذا الإطار السياسي لا يتوقع المتلقي سوى "حديث في السياسة". غير أنه في السياسة، كما في الحب والحرب، كل شيء جائز بالنسبة لبعض نخبنا. بسط الضيف رؤيته، وهاجم النظام الذي كان جزءا منه إلى شهور معدودة.. سار البرنامج على هذه الوتيرة الرتيبة التي تعودها مشاهدو القناة على قلتهم. ولم يكن "في الصميم" شيء ذا بال؛ حديث معاد بعدد حلقات البرنامج.
ثم كسر الإطار لتخرج منه "وثيقة"، كما الحمامة من منديل الحاوي! ووضع الديكور؛ الوثيقة موقعة ومختومة لإبراز أهميتها، وحجيتها. "رأيتها على مكتب الوزير"، وحذفت جملة مفيدة "بالصدفة"، فلم يذكر الضيف أنها عرضت عليه بحكم وظيفته، ولا أنه نوقش فيها!!! ثم تحدث قفزة أخرى: "وهي عندي"! بين رأيت، وهي عندي لابد من المرور بفعل آخر. طلبت نسخة منها، وهو ما لم يحدث قطعا، فلم يبق سوى "صورتها خلسة"! وأنا المستشار الفني للوزير، أدخل عليه بهاتفي كما يدخل عليه حارسه بمسدسه!
لم يكتف الضيف بحيازة صورة من الوثيقة، وإنما تتبع مسارها، فما سر هذا الاهتمام؟! وإذا كان قد علم بحكم وظيفته، وفرط فضوله، أنها انتقلت إلى مكتب الوزير الأول، فكيف عرف أنها وصلت مكتب الرئيس حيث انقضى عمرها القصير!!
يقال إن الأمور التي تبدوا عفوية هي الأكثر تنظيما وتنسيقا. ينطبق الأمر على "الوثيقة" التي صورت في مكتب وزير العدل، ثم طافت بالوزارة الأولى، ورئاسة الجمهورية، لتخرج في برنامج سياسي في قناة معارضة... بهذا المسار لم تعد لحقيقة الوثيقة، ولا لمضمونها أهمية، إنما المهم تتبع صداها، واستثمار تداعياتها في مناخ سياسي يضخم هدوؤه كل الأصوات مهما كانت مبحوحة، أو نشازا. وقد أوضح بيان الضيف أن "الوثيقة"، بعد استثمارها إعلاميا وسياسيا، فقدت قيمتها "فأخرجتها لهم في الحين..."، ثم يضيف في ختام بيانه: "الوثيقة المذكورة بين أيديهم، إن شاءوا نشروها لكم، وإن شاءوا تركوها." وبذلك نعود إلى المربع الأول. ليبق السؤال: لماذا لم ينشر الضيف "الوثيقة"؟ يحاول الإجابة على السؤال، متمترسا خلف ثلاثة خنادق.. "أما أنا فإني كنت وما زلت أتحرى في نشرها الوقت والطريق المناسبين شرعا وقانونا وسياسة."
لقد كان من الأولى أخذ كل هذه الاحتياطات عند التقاط الوثيقة؛ فهل كان تصويرها خلسة جائز شرعا، ومسموح به قانونا، ومناسب سياسيا؟! فالضيف، حين عثر بالكنز، كان جزءا من النظام السياسي، ومحل ثقة تتيح له الاطلاع على وثائق يحرم عليه شرعا كشفها، ويعاقبه القانون على تداولها. صحيح أن موظفا وطنيا نزيها لاحظ ما يضر بالوطن، في أي مجال، له أن يبلغ عن ذلك بطرق معروفة؛ إبلاغ النيابة العامة عند توفر الأدلة. أما السكوت شهورا، مع الاحتفاظ بما يراه دليلا على فساد خطير، فهو من فساد السياسة.
لم يكن الأمر، في الحقيقة سوى فقاعة؛ صوتية مرئية، بعد صوتيات مسموعة، تم حذفها بعد رواجها.. "الوثيقة بين أيديهم". ومنعا للأسئلة المحرجة يتقيد الضيف بعدم الحديث في الموضوع ما دام معروضا أمام القضاء، فلا وجه "للمتابعة" السياسية في موضوع استنفد أغراضه بين ليلة "في الصميم" وأخرى في المخفر؛ فعلى المضارب في السياسة، كما في السوق، أن يعرف متى يتوقف قبل أن تنقلب المكاسب إلى خسائر...
د. محمد اسحاق الكنتي