ليس مفهوماً قرار فرنسا الأحادي، الانسحاب من مالي، ففي الوقت الذي يتزايد انتشار الإرهاب في منطقة الساحل بصفة عامة وفي مالي بصفة خاصة، وبعيد مقتل زعيم تنظيم داعش في الصحراء الكبرى على يد القوات الفرنسية والذي اعتبرته فرنسا إنجازا كبيرا، إضافة إلى الحديث مؤخرا عن استعانة السلطات الانتقالية في مالي بقوات روسية من شركة فاغنر التي تعتبرها باريس قوات مرتزقة، ناهيك عن المصالح العميقة لدولة احتلت هذا البلد لستة عقود، كل هذه المعطيات تجعل المنطقي بحسب العقلية الفرنسية أن تتمسك بتواجدها العسكري في مالي.
توريط الجزائر
اليوم هبطت مروحية فرنسية بقاعدة “تساليت” في مدينة “غاو” الواقعة شمال شرقي مالي قرب الحدود الجزائرية، لتحمل آخر جندي فرنسي من القاعدة ، وقامت بتسليمها إلى قيادة الجيش المالي، ونحن نقول الحدود الجزائرية قد يراودنا الشك بأن الجزائر ليست بمنأى عن هذا القرار المفاجئ وقد يكون بمثابة توريط للأخيرة خاصة مع توتر العلاقات الفرنسية الجزائرية مؤخرا، وللعلم مناطق كيدال وتيسالي القريبة من الحدود الجزائرية ، بالإضافة إلى تمباكتو حاضرة مدن الطوارق منذ القدم شهدت خلال العقود الماضية عدة تمردات لعبت الجزائر دورا بارزا في تهدئة الأوضاع عبر المفاوضات آخرها الاتفاق الموقع في 2015 برعاية جزائرية بين المجموعات المسلحة للطوارق وحكومة باماكو، وقد يؤدي الانسحاب الفرنسي من الشمال إلى حركات تمرد مجددا وإمكانيات الجيش المالي محدودة والمناطق الشاسعة ، مع قلة السكان ودراية المتمردين بدروب المنطقة الوعرة ، كل ذلك قد يدفع الجماعات المسلحة الإرهابية إلى استغلال الوضع مجددا للعودة والسيطرة على الشمال المالي كما فعلت في 2012 ، وهو ما قد يدفع الجزائر التي تملك أقوى جيش في الساحل للتدخل عسكريا لمنع قيام إمارة إرهابية على حدودها الجنوبية ، وهذا السيناريو قد تفضله باريس التي عبرت عن عدم رغبتها في الاستمرار بحرب نيابة عن دول المنطقة ، مثلما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقاتل في أفغانستان نيابة عن روسيا وإيران.
ما يدفعنا لقول ماسبق خبر تزامن مع إعلان نية فرنسا الانسحاب من مالي حيث نشر موقع فرانس 24 نقلا عن مصدر عسكري فرنسي يقول ” يجب أن نناقش مستقبل تحركاتنا في شمال مالي مع بعثة الأمم المتحدة في مالي ومع الجزائريين المعنيين مباشرة باعتبارهم دولة جارة”.
السيناريو الأفغاني…
الأحداث في أفغانستان أيقظت لدى بعض الماليّين شبح سقوط باماكو إثر الانسحاب الفرنسيّ، إذ أن الأوضاع الأمنية والسياسية ملبّدة وغير واضحة بعد عام على الانقلاب الذي حمل العسكريين إلى الحكم ما يجعل انتقال بعض المناطق إلى سيطرة الجهاديين بالكامل، أمراً ممكناً، إذ تبدو السلطات في بعض الولايات عاجزة عن بسط سلطتها مجدّداً في هذه المناطق الصحراوية الشاسعة حيث ينتشر الفقر المدقع وتزداد الجماعات المسلحة قوة وتنظيما يوما بعد آخر.
ففي الفترة الأخيرة شهدت منطقة الساحل ارتفاع وتيرة الهجمات الإرهابية، بمجرد أن ألمحت فرنسا تقليص دورها في الساحل وإنهاء عملية “برخان” العسكرية.
وفي هذا الإطار، أجرت وكالة “فرانس برس” لقاءات قال فيها بعض الماليين إنّ الوضع يتدهور سنة بعد سنة مشيرين إلى أنه يمكن لمدينة مثل غاو أن تسقط في غضون نصف ساعة بيد الإرهابيين، مشدّدين على أنّ الانتشار الأمني للشركاء (خصوصاً فرنسا والأمم المتحدة) يُبقي مدن الشمال الكبرى تحت إشراف الدولة.
الفراغ الأمني…
في كلمة لرئيس الوزراء المالي شوغل كوكالا مايغا، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتهم فيها فرنسا بالتخلي عن بلاده في منتصف الطريق بقرارها سحب قوة “برخان”، مبرراً بذلك بحث بلاده عن “شركاء آخرين”، من بينهم شركات خاصة روسية.
وأوضح رئيس الوزراء المالي أن الوضع الجديد الذي نشأ بسبب انتهاء “برخان”، وضع مالي أمام أمر واقع ويُعرضها لما يشبه التخلي في منتصف الطريق، ويقود إلى استكشاف السبل والوسائل لكي تضمن على نحو أفضل الأمن مع شركاء آخرين، لملء الفراغ الذي سينشأ حتما عن إغلاق بعض مواقع “برخان” في شمال مالي، منتقدا قلة تشاور باريس وإعلان أحادي صادر من دون تنسيق ثلاثي مع الأمم المتحدة وحكومة باماكو.
هذا السيناريو ترفضه باريس تماما وحذرت مرارا وتكرارا السلطات الانتقالية في مالي من استعانتها بالروس بل أبعد من ذلك استخدمت لغة التهديد والوعيد ليس فقط مع سلطات باماكو وإنما مع الجانب الروسي في مناسبات عدة.
عقوبة على الانقلاب وأشياء أخرى…
كلام واتهامات شوغل مايغا السابقة لفرنسا، وأيضاً دخول السلطات المالية مؤخرا في حوار مع جماعات جهادية، إضافة إلى زيارات واتفاقيات مع روسيا، وليس أخيرا الانقلاب العسكري يدفع للقول بأن من أحد أهم الأهدف للانسحاب الفرنسي من شمال مالي هو معاقبة زعيم الانقلابيين العقيد أسيمي غويتا الذي أطاح بالرئيس المؤقت باه نداو المقرب من باريس، ومع فشل الجيش المالي في مواجهة الجماعات الإرهابية في البلاد يضع الانسحاب الفرنسي السلطات المالية أمام امتحان صعب ويلقي بأعباء إضافية ما قد يدفعها مرغمة للعودة إلى أحضان باريس للحصول على دعمها المالي والعسكري.
إعادة التموضع…
مع التخمينات والتحليلات السابقة يأتي إعلان الرئيس الفرنسي أن بلاده لن تترك أصدقائها في مالي يواجهون الجماعات الإرهابية بمفردهم، مؤكدا أن فرنسا قررت إنهاء عملية “برخان” لمحاربة الجماعات المسلحة في الساحل والانخراط في عملية “تاكوبا” التي تشارك فيها عدة بلدان أوروبية، كما أكد أن إغلاق قواعد الجيش الفرنسي في “تساليت وكيدال وتمبكتو” في شمال مالي سيستكمل مع مطلع العام 2022.
إذاً يُدوّر الرئيس الفرنسي الزوايا ليضعنا أمام السيناريو الصريح إعادة التموضع وبذلك ترتب باريس قصة الانسحاب وتحّولها إلى إعادة انتشار فما المكاسب من ذلك:
أولا: حفظ ماء وجه فرنسا دون أن يبدو الانسحاب هزيمة فهي تقول إنها وجهت ضربات قوية لقيادات التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل الغربي لأفريقيا، كان أبرزها مقتل زعيم “داعش” في الصحراء الكبرى، عدنان أبو وليد الصحراوي خلال عملية لقواتها “برخان” منتصف أغسطس الماضي، ونقل المركز الفرنسي عن مسؤولين قولهم إن مقتل الصحراوي، يعد علامة بارزة وإنجاز كبير للقوات الفرنسية التي تكافح الإرهاب في منطقة الساحل، لكن على أرض الواقع مازال التنظيم الإرهابي متواجدا بقوة ويتغلغل أكثر فأكثر في البلاد.
ثانيا: تخفيف الأعباء المالية والخسائر البشرية دون التخلي عن النفوذ في المنطقة حيث يضغط الرأي العام الفرنسي على قيادة بلاده لسحب قواتها من الساحل بعد مقتل أكثرمن 50 جندي فرنسي وإنفاق مليار يورو سنويا لتغطية الحاجات المتعلقة بعملية برخان ما يعني أن فرنسا أنفقت نحو 8 مليارات يورو على الأقل في معركتها، كما أن نتائج استطلاع الآراء كشفت أن أكثر من نصف الفرنسيين يعارضون التدخل العسكري في الساحل بعدما كانت نسبة المؤيدين 73 بالمئة عام 2013 ، هذه النتائج تدفع ماكرون الحالم بفترة رئاسية ثانية إلى سحب قواته من خطوط المواجهة الرئيسية وتدويل الحرب.
ثالثا: الاحتجاجات الواسعة التي انطلقت في باماكو مؤخرا تندد وتطالب برحيل القوات الفرنسية من مالي، فما زال الرأي العام المالي تسكنه مشاعر معادية لفرنسا التي احتلت هذا البلد بعنف لستة عقود ولم ينسَ سكانه ماضيها الاستعماري.
رابعاً : إعادة التموقع في منطقة المثلث الحدودي الواقع بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو كما تقول تقارير إعلامية حيث نقلت الجماعات الإرهابية مسرح عملياتها إلى هذه المنطقة، وهنا نتحدث عن وسط وجنوب البلاد، فأي انسحاب هذا خاصة أننا نتحدث عن الاقتراب من منطقة خليج غينيا الغنية بالنفط والغاز.
في الختام ما هو مؤكد أن المنطقة مقبلة على مخاضات سياسية واجتماعية وأمنية كبيرة وستشهد – شاء الفرنسيون أم أبوا – دخول لاعبين دوليين وإقليميين جدد، خاصة مع إعلان واشنطن عن إمكانية انخراط الجيش الأمريكي في العمليات القتالية إلى جانب قوات “تاكوبا” الأوروبية، إضافة إلى تزايد النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، أما القضاء على الإرهاب فلا يمكن إلا أن يكون على يد أصحاب الأرض سياسيا وعسكريا إلى جانب الحلول الاجتماعية والثقافية وتحقيق العدالة ونشر الوعي والوسطية وأهم من ذلك الحلول الجذرية التي تقضي على ظاهرة التطرف والإرهاب وأهمها تجفيف منابعها والكشف عن من يقف من ورائها عالميا.
صفاء عيد