هناك حربان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبرهما مجرد نزهة، ومع ذلك فلابد من خوضهما لضمان بقاء هذا البلد والحفاظ على استقراره. تتعلق الأولى منهما بالحرب على الفساد، والتي لابد من خوضها لتحرير إدارتنا وتخليصها من عصابات وميليشيات المفسدين الذين يسيطرون عليها منذ سنوات، بل ومنذ عقود. وتتعلق الثانية بالحرب على المخدرات، والتي لابد من خوضها هي أيضا لإنقاذ شبابنا من المخاطر المدمرة للمخدرات.
في هذا المقال سنتحدث عن الحرب على الفساد، وسيقتصر حديثنا على دور المجتمع في محاربة الفساد، وذلك على افتراض أن القرار بمحاربة الفساد والعمل بتقارير المفتشية العامة للدولة قد تم اتخاذه من طرف أعلى سلطة في البلاد، وأنه لا رجعة في ذلك القرار، وأن الأيام والأسابيع القادمة ستكون حبلى بإقالة وإعفاء كل موظف قالت تقارير المفتشية بفساده.
بدءا لابد من الاعتراف بأن مجتمعنا أصبح يشكل بالفعل حاضنة قوية للفساد والمفسدين، وأنه يعاني منذ عقود من انقلاب خطير في القيم حصل المفسدون بموجبه على كل أشكال التمجيد والتقدير من المجتمع، وكان فيه نصيب الموظفين المستقيمين الخلود في الدرك الأسفل من سلم الإدارة، مع نظرات الاحتقار والازدراء التي يقابلون بها أينما ولوا وجوههم.
إن المفسد في بلادنا ترفعه أمواله المسروقة، والتي ينفق منها بكرم حاتمي في المواسم الانتخابية، وعلى المبادرات الداعمة، وعلى "خبراء التلميع" في القبيلة و الصحافة والتدوين والشعر والفن، ترفعه تلك الأموال المسروقة مكانا عليا على المستوى السياسي والاجتماعي والوظيفي، ولذا فعندما يُقال مثل هذا الموظف أو يُساءل قضائيا في تهم تتعلق بفساد واضح وجلي تُعلن حالة استنفار في القبيلة، ويتسابق خبراء التلميع الممتلئة بطونهم من ماله الحرام في الدفاع عنه.
ليس من الغريب أن يفاجأ الواحد منا بشخص عهده وإلى وقت قريب ينادي بأعلى صوته مطالبا بمحاربة الفساد، يفاجأ به وقد انقلب 180 درجة بسبب إقالة أو اتهام قريب له بالفساد، وكثيرا ما يتحول ذلك الشخص ـ وبسرعة البرق ـ من مناضل ضد الفساد إلى مدافع عن مفسدي القبيلة إذا ما تم المساس بمصالحهم، حتى ولو اقتصر ذلك المساس بمجرد إقالة مؤقتة قد تأتي من بعدها وظيفة أحسن منها.
إنه لمن المؤسف حقا أن أغلب من يطالبون بمحاربة الفساد، يتحولون في غمضة عين إلى مدافعين عن الفساد، وذلك عندما يكون المفسد الذي تعرض لعقوبة من أبناء القبيلة أو الشريحة أو الجهة.
هذه هي حقيقتنا التي يجب أن تقال بأعلى صوت، فمجتمعنا قد أصبح يشكل ـ وللأسف الشديد ـ حاضنة قوية للفساد والمفسدين، والكثير من نخبنا قد يطالب بالحرب على الفساد ويتحمس لها، ولكن بشرط أن تستثني أقاربه من أي عقوبات على ما يرتكبون من فساد.
إننا اليوم بحاجة إلى جهد كبير للانتقال بمجتمعنا من مجتمع حاضن للفساد إلى مجتمع محارب للفساد، ولن يتحقق ذلك الانتقال إلا بجملة من الأمور لعل من أبرزها :
1 ـ أن يتعهد كل مهتم بالشأن العام يطالب بمحاربة الفساد أنه لن يتعاطف مع أي قريب له، يظهر اسمه في ملف فساد، بل على العكس من ذلك فإنه سيطالب بتطبيق القانون في حق ذلك القريب المفسد، وبنفس الحماس الذي كان يطالب به بتطبيق القانون في حق مفسدين آخرين من غير أقاربه. على المستوى الشخصي فإني أتعهد للقراء بذلك؛
2 ـ العمل من طرف النخب المناهضة للفساد على خلق رأي عام وطني داعم لأي خطوة تتخذ ضد الفساد والمفسدين مع الضغط من أجل اتخاذ المزيد من الخطوات الرادعة ضد الفساد والمفسدين؛
3 ـ الوقوف الحازم من طرف النخب المناهضة للفساد ضد أي محاولة قد يقوم بها المفسدون للتشويش على أي خطوة قد تتخذ في محاربة الفساد، فمن المعروف أن المفسدين يمتلكون قدرات كبيرة للتنسيق فيما بينهم إذا ما استشعروا بالخطر، وهم يمتازون بالحيوية والنشاط والقدرة على الأخذ بزمام المبادرة، وذلك على العكس ممن يمكن أن يوصفوا بالاستقامة ونظافة اليد، فهؤلاء لا يمتلكون في العادة القدرة على التنسيق، وتنقصهم الحيوية والنشاط، ونادرا ما يأخذون بزمام المبادرة؛
4 ـ على ضحايا الفساد في المجتمع، وخاصة الشباب، أن يدركوا أن الحرب على الفساد هي حربهم من قبل أن تكون حرب أي جهة أخرى، ولذا فعليهم أن لا يقبلوا أن تخاض هذه الحرب بالنيابة عنهم، أي أنه من الواجب عليهم أن يكونوا في صفوفها الأمامية . عليهم أن يكونوا في الصفوف الأمامية من خلال التوعية بخطورة الفساد، وكشفه، ودعم كل خطوة تتخذ للحد من الفساد وتضييق الخناق عليه.
حفظ الله موريتانيا..