هل جاءت زيارة الرئيس الأسد للإمارات تتويجًا لانقلابٍ خليجيّ حقيقيّ على الهيمنة الأمريكيّة؟ وما هي المُؤشّرات الأربعة التي تُرَجِّح هذه الفرضيّة؟ وأين ستكون وجهة طائرة الرئيس السوري القادمة.. الرياض أم القاهرة؟
إذا كان هُناك إيجابيّات للحرب الأوكرانيّة بالنّسبة إلينا كعرب، فإنّ أبرزها يتمثّل في تراجعٍ مُتسارع لمكانة الولايات المتحدة ونُفوذها في مِنطقة الشّرق الأوسط، وخسارتها لمُعظم حُلفائها التّقليديين والتّاريخيين، خاصَّةً في مِنطقة الخليج العربي، ومن غير المُستَبعد أن تتزايد وتيرة هذا التّراجع سُرعَةً، مع تعاظم فشَل المُؤامرة الأمريكيّة ضدّ روسيا، وكُل ما ترتّب عليها من عُقوبات اقتصاديّة وسياسيّة، وضعف هيمنة دولارها على النظام المالي العالمي بفِعل التحالف الروسي الصيني الجديد، وحالة الانقِسام اللّافتة في المُعسكر العربيّ المُناهض له على الجانب الآخر.
***
هُناك أربعة مُؤشّرات تدعم هذه النظريّة وتُؤكّد ترسّخها، والمُعادلات الجديدة التي بدأت في فرضها على أرض الواقع الشّرق أوسطي يُمكن تلخيصها في النّقاط التّالية:
- أوّلًا: الزيارة المُفاجئة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد لدولة الإمارات العربيّة المتحدة يوم أمس الجمعة، والاستِقبال الحافِل الذي حظي به من قِيادتها، وبِما يُشكّل صفعةً قويّةً للولايات المتحدة، وعدم الاهتِمام بكُل بيانات إدارتها الرّافضة لها، وعُقوباتها الرّامية إلى سحب الشرعيّة من النظام السوري.
- ثانيا: تعاظم حالة التمرّد على الهيمنة الأمريكيّة الذي تقوده قِيادتا الإمارات والسعوديّة وتحتل بلداهما المرتبتين الأولى والثانية على قائمة الدّول المُنتجة للنفط في منظّمة أوبك، وظهر هذا التمرّد في أقوى صُوره برفض التّجاوب مع “استِجداءات” الرئيس جو بايدن لزيادة الإنتاج لتخفيض أسعار النفط، وتوفير البدائل لفرض حظر على النفط والغاز الروسيّين.
- ثالثًا: إفشال الزيارة التي قام بها بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني بتكليفٍ من واشنطن إلى العاصمة السعوديّة الرياض والإماراتيّة أبو ظبي، حامِلًا تهديدات مُبطّنة في حال عدم بقاء الدّولتين تحت خيمة التحالف العربي في حرب أوكرانيا، والانضمام إلى أيّ فرض للعُقوبات الاقتصاديّة على روسيا، وفكّ الشّراكة النفطيّة معها.
- رابعًا: توجيه السعوديّة دعوةً للرئيس الصيني لزيارتها رسميًّا، والإعراب عن استِعدادها لاستِخدام اليوان الذهبي الصيني لتسديد العوائد النفطيّة، واتّخاذه كمِقياسٍ لتسعير برميل النفط بَدَلًا من الدّولار الأمريكي، وهذا يعني استِعداد المملكة، وربّما دول خليجيّة أُخرى للانضِمام إلى النظام المالي الروسي الصيني الجديد البديل لنظيره الغربي.
استِقبال الرئيس الأسد الحافِل في أبو ظبي ودبي، يُشَكِّل أبرز مظاهر هذا التمرّد، أو الانتِفاضة على الهيمنة الأمريكيّة، ورسالة قويّة لواشنطن تقول إن كيْل صبرنا على غطرستكم قد طفَح، ولعلّ مجيء هذه الزّيارة للرئيس السوري في وَقتٍ رفضت فيه الرياض وربّما أبو ظبي أيضًا، استِقبال أنتوني بلينكن، وزير الخارجيّة الأمريكيّة، التي أرادها لمُتابعة زيارة جونسون ومُحاولة النّجاح حيث فشل، والأهم من ذلك قِيام الشيخ عبد الله بن زايد وزير خارجيّة الإمارات لموسكو ولقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وظُهورهما أمام العدسات في حالة انسِجامٍ شخصيّ لافت، الأمر الذي رشّ الكثير من المِلح على جُرح الإهانة الأمريكي.
توقيت زيارة الرئيس الأسد للإمارات في الذّكرى الحادية عشر لبدء الحرب السوريّة التي كانت تقودها أمريكا للإطاحة بنظامه، وبعد ثلاثة أسابيع من بدء اجتياح القوّات الروسيّة لأوكرانيا، وحِصار عاصمتها كييف، وعدم إعطاء أيّ اهتِمام لردّ الفِعل الأمريكيّ الغاضِب، كلّها تعكس بدء إجراءات “الطّلاق” الأوّليّة مع الحليف الأمريكي المُتَغطرِس الذي يخذل حُلفائه ويُمعِن في ابتِزازهم.
زيارة الرئيس الأسد للإمارات طريقٌ من اتّجاهين، وتنطوي على أهميّةٍ كُبرى للبلدين وقيادتهما، فهي تكسر العُزلة الرسميّة “العربيّة” لسورية وتُشَكّل بداية خرق للحِصار الاقتِصادي الأمريكي المفروض عليها، وتأتي الزّيارة تدشينًا “لتطبيع” عربي مُقابل، ومُقدّمة لاستِعادة دِمشق عُضويّتها في الجامعة العربيّة والعمل العربيّ المُشترك، وحُضور القمّة العربيّة التي ستُعقَد في الجزائر في شهر تشرين ثاني (نوفمبر) المُقبل.
أمّا بالنّسبة للفوائد التي ستَجنيها الإمارات من وراء هذه الخطوة “الجريئة” فهي كثيرة، أبرزها تقليص الآثار السلبيّة التي لحقت بها وصُورتها من جرّاء توقيعها اتّفاقات “سلام أبراهام” مع العدوّ الإسرائيلي، والمُبالغة في إجراءات التّطبيع معه، وشكّلت خطرًا أمنيًّا مُحتَمَلًا على أمنِها واستِقرارها، وبناء جُسور ثقة وتعاون مع محور المُقاومة عبر البوّابة السوريّة الحليف الأقوى لإيران، ممّا قد يُؤدّي إلى إيجاد مخارج لها، وللسعوديّة من مُستنقع الحرب اليمنيّة، وربّما ليس من قبيل الصّدفة طرح الأخيرة مُبادرةً للحِوار بين الأطراف اليمنيّة في الرياض، وتوجيه دعوة رسميّة لحركة “أنصار الله” الحوثيّة للمُشاركة فيها.
***
باختِصارٍ شديد نقول إننا نشهد هذه الأيّام إرهاصات انقِلاب في دول ما يُسمّى بمحور “الاعتِدال العربي” بقِيادة مُثلّث مِصري إماراتي سعودي على الهيمنة الأمريكيّة في المِنطقة العربيّة، وتظل عُضويّته مفتوحةً لدول خليجيّة وعربيّة أُخرى وعلى رأسها الجزائر والعِراق وسورية والسودان، إذا أرادت الانضِمام، ولعلّ المحور الجديد سيتبلور بشَكلٍ أوضح في القمّة العربيّة المُقبلة في الجزائر.
عمليّة التّطبيع مع دولة الاحتِلال ستتراجع حتمًا، بل يجب أن تتوقّف كُلِّيًّا، لأنّها تُشَكِّل أكبر خطيئة ارتكبتها، وترتكبها الدّول المُطبّعة، قديمها وحديثها، ونحن مُتفائلون في هذا الصّدد، فالانقِلاب على أمريكا انقِلابٌ على إسرائيل التي بدأ مُستوطنوها في الهُروب إلى الجُزُر اليونانيّة.
يبدو أن طائرة الرئيس بشار الأسد وطاقمها التي كانت لا تطير إلا إلى موسكو وطِهران طِوال السّنوات العشر الماضية، ستكون مشغولة جدًّا في الأيّام والأشهر المُقبلة، ولا نستبعد أن تكون الرياض أو القاهرة المحطّتين القادمتين بعد أبو ظبي، رُغم المُحاولات الأمريكيّة لوضع العقبات في طريقها.. والأيّام بيننا.