ما نرجوه ونتمناه هو نخبة وطنية بعيدة كليا من الانتهازية واللونية والشرائحية، ومعزولة تماما عن الاتجاهات الفكرية والتخندق الإيديولوجي؛ لكن واقع الحال يرمي لنا بنخبة بائسة ومستعصية على الفهم والتدبر، ربما تشبه رواية "مارسيل بروست؛ البحث عن الزمن المفقود"، التي تروي حكاية رجل يبحث عن معنى وسبب حياته؛ في سؤال مفتوح استغرق سبعة مجلدات وظل جوابه معلقا..!
لا نتمنى أن نظل دون جواب، بل نرجو أن تجيب نخبتنا السياسية على أسئلتنا المعلقة والحائرة منذ رمتنا الديمقراطية ببلواها وأرغمتنا على التعامل مع واقع متشابه السطح والقاع؛ واقع الانتهازية ورعاية المصالح الشخصية، فالقليل من هذه النخبة العائمة من يبيتون التفكير لصالح الوطن أو العمل على تأمين مستقبله وحمايته من المنزلقات التي تعم العالم من حولنا؛ قبل سنتين من الآن كان الهم الأكبر والمطلب الأوحد لمعظم الأحزاب والشخصيات السياسية هو مطالبة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني بإجراء حوار وطني.. قبل فخامة الرئيس الطلب واختار له أن يحمل عنوان "التشاور الوطني" مستلهما قول الله تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}؛ ووعد فخامة الرئيس أن لا يستثني التشاور أحدا ولا يحظر موضوعا يمكنه أن يعزز ديمقراطيتنا ويرسخ وحدتنا الوطنية، أيام قليلة على إطلاق الجلسات التمهيدية للتشاور وتحديد المواضيع وتشكيل اللجان حتى بدأت "الجن والعفاريت" تركب عقول البعض وتمنيه وتملي عليه، بل وتفرش له البساط الأحمر وتجلسه على كرسي الرئاسة في يوم قائظ..!
إن الإفراط في انتهاج الانتهازية السياسية نتائجه وخيمة وتحرق صاحبها قبل أن تلحق الضرر بالآخرين، تماما مثل ما تفعل الكحول وحبوب الهلوسة بعقول متعاطيها، وإذا لم تكن هناك مدونة أخلاقية تعلي قيم الوطنية وتقصي الأفعال الانتهازية فإن ديمقراطيتنا ستصبح "حصان طروادة" المطلي بالشعارات الزائفة، وستكون مطية لتحقيق المصالح الشخصية والأطماع الأنانية، في الواقع نأمل أن يغادر انتهازيو السياسة هذا المنطق ويعملوا مع النظام على تخليق الحياة السياسية ونزع فتيل التوتر والشحن العاطفي المبني على استدعاء الماضي والإرث الاجتماعي الذي قال فيه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني "ما لم يقله مالك في الخمر" خلال خطابه التاريخي بمدينة وادان..
إن بؤر الدخان المتصاعد من أفواه من ظنناهم تخلوا عن تعمد إشعال حريق الفتنة واختلاق التأزيم تدفعنا للاعتقاد أن الأفعال الانتهازية ما زالت تسيطر على تصرفاتهم، وهو أمر مقلق ومؤشر سلبي ينم عن عدم الاكتراث بالمصالح الوطنية الكبرى، ومؤشر كذلك على أن البعض مصر أي ما إصرار، على جعل المناسبات الوطنية فرصة لملء حقيبته الخاصة، فهل يمكن أن يكون التشاور الوطني مناسبة للتفاوض حول حل حزب سياسي أو ترخيص آخر؟ ومتى كانت قاعات الحوار أو التشاور مكانا لمثل هذه المراهقة والدجل السياسي..!
الواقع أن السياسي الذي يطرح مثل هذا الكلام هو شخص تائه لا يعي ماذا يفعل بالضبط، وبات يتخذ من الصراخ طوق نجاة لإنقاذ نفسه من واقعه المزري؛ يقول جبران خليل جبران: "إن النجوم لا تومض إلا في ظلام الليل" وقديما كانت العرب تهتدي بالنجوم والطوالع عندما يعييها الصراخ والتيه في الصحاري المقفرة، ونعتقد أن نخبتنا السياسية وجدت فرصة تاريخية حين أضاءت لها نجوم الإجماع الوطني، وفتح لها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني "باب حكمته وكياسته ووثير مكتبه" وصرف الكثير من وقته الثمين في الاستماع لهم، وهم الثرثارون دوما؛ والحقيقة أن الفرص التاريخية يجب الإمساك بها بالنواجذ والأسنان، أما أن يكون تعامل النخبة مع هذه الفرصة الثمينة هو التفريط فيها والتطاول عليها، فنقول لهم كما قالت العرب؛ "الصيف ضيعت اللبن".