لم نُبالغ عندما قُلنا في هذا المكان إن الولايات المتحدة الأمريكيّة تسعى جاهدةً من أجلِ وقفٍ سريعٍ للحرب في أوكرانيا عبر المُفاوضات المُباشرة والسلميّة مع القِيادة الروسيّة للحيلولة دون صدامٍ مُباشر بين القوّتين العُظميين، وتجنّب حربٍ عالميّةٍ نوويّةٍ تُدمّر العالم، خاصّةً بعد أن هدّد الرئيس فلاديمير بوتين ثلاث مرّات بأنّه لن يتردّد في استِخدام أسلحة نوويّة إذا تعرّضت الأراضي الروسيّة لأيّ عُدوانٍ بما في ذلك الأقاليم الأربعة التي جرى ضمّها رسميًّا، والتّأكيد على أن خيرسون المدينة التي انسحبت منها القوّات الروسيّة قبل بضعة أيّام كانت ولا تزال وستَظل جُزءًا من الأراضي الروسيّة.
بعد اللّقاء السرّي الذي أجراه جيك سوليفان مُستشار الأمن القومي الأمريكي قبل أُسبوعين لبحث كيفيّة عدم توسّع الحرب، وجرّ حِلف الناتو للدّخول إلى حلبتها، ها هو مسؤولٌ في البيت الأبيض يكشف اليوم الاثنين أن وزير وكالة المُخابرات المركزيّة الأمريكيّة يتواجد حاليًّا في أنقرة للقاء نظيره سيرغي نار بشكين رئيس جهاز المُخابرات الروسيّة لـ”نقل رسالةٍ إلى الطّرف الروسي بشأن عواقب استِخدام روسيا للأسلحة النوويّة”.
***
لا نعتقد أن الهدف من اللّقاء هو نقل هذه الرسالة حول مخاطر استِخدام روسيا للأسلحة النوويّة، لأنّها ليست دولة “ميكروزيّة” صغيرة لا تعرف هذه الأخطار، وإنّما دولة عُظمى تملك 6500 رأس نووي، وصواريخ باليستيّة أسرع من الصّوت يُمكن أن تحمل رُؤوسًا نوويّةً قادرة على الوصول إلى السّاحل الشّرقي الأمريكي وتدميره في أقلّ من سبع دقائق.
أمريكا أدركت أنها تورّطت في حربِ استنزافٍ ماليّ وعسكريّ خاسرة في أوكرانيا، بعد تسعة أشهر تقريبًا من بدئها، وتعالي الأصوات الأوروبيّة المُتَمرّدة، سواءً عبر المُظاهرات، والاحتِجاجات أو عبر القنوات السريّة الرسميّة التي تُطالب بإنهاء هذه الحرب فورًا، ورفع العُقوبات الاقتصاديّة عن روسيا بعد فشلها وارتِدادها سلبًا ومُعاناة على المُواطن الأوروبي، ومنظومة الاتّحاد الأوروبي نفسها، وزيادة احتِمالات إفلاسها وتفكيكها.
الولايات المتحدة لجأت إلى مسارين رئيسيّين للخُروج من سياساتها الفاشلة في أوكرانيا وجنوب شرق آسيا:
- الأولى: فتح قنوات الحِوار، وعلى أعلى المُستويات مع القُطبين الروسي والصيني حول القضايا المُتوتّرة في أوكرانيا أوروبيًّا، وتايوان آسيويًّا بعد إدراك الإدارة الأمريكيّة بأنّ مُخطّطاتها لفكّ التّحالف الروسي الصيني باتت مُستَحيلةً.
- الثانية: إبلاغ الرئيس الأوكراني فولوديمبر زيلينسكي بالتوقّف عن تصريحاته الغير واقعية، وفرض شُروطه المُبالغ فيها لجُلوسه على مائدة المُفاوضات مع روسيا للتوصّل إلى حُلولٍ سياسيّةٍ تُنهي الحرب، فمَن هو زيلينسكي حتّى يقول إنّه لن يتفاوض مع روسيا طالما بوتين في السّلطة؟
الرئيس الأمريكي جو بايدن اتّخذ من مُشاركته في قمّة العشرين في مُنتجع بالي الأندونيسي ذريعةً للقاء الرئيس الصيني تشي جينبيغ وبناءً على طلبه، أيّ بايدن نفسه، وتصريحه الذي أدلى به بعد اللّقاء الذي استمرّ ثلاث ساعات، وقال فيه مُخاطِبًا نظيره الصيني “كم هو رائع أن ألتقي بك”، وكانَ رَدُّ الرئيس الصيني “ابتسامة عريضة” فقط.
من المُؤكّد أن حالة التوتّر في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، تربّعتا على قمّة جدول أعمال المُحادثات في القمّة الروسيّة الأمريكيّة، ولكنّنا لا نستبعد أن يكون الرئيس الأمريكي قد طلب وِساطَة الصين باستِخدام علاقاتها القويّة مع موسكو لدعم جُهود بلاده المُتصاعدة حاليًّا بضرورة التوصّل إلى حلٍّ سليم وبأسرعِ وقتٍ مُمكن، قبل نُزول “الجِنرال جليد” بكُلّ ثقله في الميدان.
***
مُنذ اليوم الأوّل لهذه الحرب الأوكرانيّة قُلنا إن روسيا لن تخسرها، وإن أمريكا لن تُرسِل جُنديًّا واحِدًا إلى كييف للدّفاع عنها بعد هزائمها في العِراق وأفغانستان، وأكّدنا أن الشعب الأوكراني بالدّرجة الأولى، والشّعوب الأوروبيّة بالدّرجة الثانية، سيكونون أبرز ضحايا هذه الحرب بشريًّا، وماديًّا، واقتصاديًّا، وها هي الإدارة الأمريكيّة ترفع الرّايات البيضاء وتُريد وقفًا سريعًا لإطلاق النّار، وتُرسِل مُوفَديها إلى أنقرة وغيرها للِقاء نُظرائها الروس من أجلِ هذا الهدف.
أمريكا هزمت النازيّة، وانتصرت في الحرب العالميّة الثانية لأنّها تملك أسلحةً نوويّة، الآن انقلبت الآية، عندما نسيت قِيادتها أمْرين رئيسيّين: الأوّل أنّها تُواجِه خصمين نوويين في الصين وروسيا، وفوقهما كوريا الشماليّة، والثاني أنها لم تَعُد القُوّة الأعظم الوحيدة القادرة على الهيمنة على العالم ومُقدّراته اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا، ويبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد فتح عينيها على هذه الحقيقة المُرّة بإرسال قوّاته إلى أوكرانيا واستِعادة الأقاليم الأربعة للسّيادة الروسيّة وقبلهما شِبه جزيرة القِرم.
نتوقّع تسويةً وشيكةً ووقف لإطلاق النّار في الحرب الأوكرانيّة في الأيّام والأسابيع المُقبلة، ووِفق الشّروط الروسيّة.. والأيّام بيننا.