حين تم اتهام ليبيا ظلماً في مأساة طائرة لوكربي (21 ديسمبر 1988) فإن البلد بكامل قواه الرسمية والشعبية واجه الحكومات الغربية الغاشمة طيلة عقد التسعينيات رافضاً التفريط في أبنائه المتهمين زوراً وباطلاً.
وكنتيجة لهذا الموقف التاريخي الصامد، تحملت ليبيا (الدولة الصغيرة) أقصى العقوبات الإقتصادية والسياسية والدبلوماسية وحظر الطيران ومنع التبادلات التجارية والطبية والتعليمية لأكثر من 9 سنوات كاملة. وألزم مجلس الأمن كل المجتمع الدولي بتنفيذ هذه العقوبات الحيوية الظالمة دون استثناء حتى للأدوية والمعدات الطبية والمواد المعيشية الأساسية للشعب الليبي.
أدى هذا إلى خسائر اقتصادية مباشرة وصلت وفق تقديرات مصرف ليبيا المركزي سنة 2001 إلى 46 مليار دولار. هذا غير الخسائر غير المباشرة.
كما دعم الغربُ الحركات الإرهابية المسلحة المتسترة باسم الدين في بلادنا في هذه الفترة بالذات (وعلى رأسها الجماعة الليبية المقاتلة) لتعيث في ليبيا تفجيراً وقتلاً من 1993 وحتى 1999، وهي نفس الحركات التي عاد ودعمها الغرب في 2011 وما بعدها وتسببت في ذبح الآلاف من الليبيين جنوداً ومدنييين في مداخل المدن الليبية ومخارجها.
ومع هذا كله وقف النظام السياسي الجماهيري والشعب الليبي يداً واحدة ضد العقوبات وضد الإرهاب وضد الظلم الغربي في ملحمة وطنية يشهد لها العدو قبل الصديق.
واستمرت برامج التنمية الوطنية في كل المجالات بعزيمة القيادة والشعب، وحافظ الليبيون على مستوً معيشيٍّ جيد، وتوفرت لهم أساسيات الحياة الكريمة، واستمر تنفيذ مشروعات التعليم والإسكان والصحة وغيرها ولو بإيقاع أبطأ من عقدي السبعينيات والثمانينيات بالضرورة. بل إن إيفاد الطلبة الليبيين للدراسة في الخارج مثلاً، خاصة في مجالات الطب والهندسة والكومبيوتر، بلغ أعلى مستوياته في تاريخ قطاع التعليم.
وإبتداء من سنة 1998 بدا واضحاً للولايات المتحدة الأمريكية أن إدراة ليبيا الحكيمة لأزمة لوكربي في كل المجالات المعيشية والدبلوماسبة بدأت تثمر عن نجاحات ساحقة على المستوى الإفريقي والعالمي. فبتأثير من القيادة الليبية كسرت الدول الإفريقية حظر الطيران الدولي على ليبيا في سابقة دولية استثنائية، وزار قادة أفارقة طرابلس على متن طائراتهم وبدأ التداول الدبلوماسي والتجاري الكامل مع القارة الإفريقية.
واجتمع بعدها 50 رئيساً إفريقياً في مدينة سرت في 1999.9.9 لإعلان الاتحاد الإفريقي رغماً عن التهديدات الغربية بالعقوبات وغيرها.
وصل الرفض الإفريقي والعربي للحصار الغربي على بلادنا إلى أعلى مدى، وبدأت بعض الدول اللاتينية والآسيوية تعلن بأنها لن تلزم نفسها بالعقوبات والقطيعة مع ليبيا اذا استمر التعنت الأمريكي والبريطاني في الوصول إلى حل وسط مع القيادة الليببة. واقترحت بعض الدول أن يبدأ الربط الكامل مع ليبيا عن طريق الاتحاد الإفريقي الوليد.
تحت هذه الظروف الإيجابية الجديدة، والتي هي من إنجاز القيادة الليبية والشعب الليبي وليست وليدة الصدفة أو الحظ، وافقت أمريكا وبريطانيا مرغمتين على الشرط الليبي الحاسم بإجراء المحاكمة في دولة ثالثة محايدة وقضاء محايد (في لاهاي الهولندية) وبمحكمة خاصة تنشئ لهذا الغرض هي المحكمة الأسكتلندية الخاصة، بدلاً من الشرط الأمريكي/البريطاني بتسليم المواطنين الليبيين لهما حصراً ودون تفاوض أو اشتراطات.
وقد تم الاتفاق والتوقيع على وجود ضامنين دوليين لتنفيذ المعاهدة: المملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا.
قدمت عندها الدولة الليبية كل الدعم القانوني والمادي والإعلامي والشعبي للمواطنين الليبيين خليفة افحيمة وعبد الباسط المقرحي حتى يوم الحكم الذي أعلنت ليبيا في كل المحافل الدولية أنه كان ظالماً.
طبعاً، التزمت ليبيا بتعهداتها الدولية تجاه القبول بقرار المحكمة ولكن هل سكتت الدولة الليبية وتركت عبد الباسط المقرحي يلاقي مصيره غير العادل؟
قطعاً لا!
ليبيا استخدمت كل ترسانتها السياسية والمالية من تأثير دولي وضغوط اقتصادية، وتهديد بقطع العلاقات التجارية مع بريطانيا، اذا لم يتم اطلاق سراح المقرحي. وهو ماحدث تماماً في غضون سنوات قليلة، حيث تم الإفراج عنه بحجة وضعه الصحي. ثم استقبل رسمياً وشعبياً استقبال الأبطال في مدينة طرابلس وعاش معززاً مكرماً في بيته ووسط أسرته الكريمة.
وليس هذا فقط، بل إن القيادة الليبية ألزمت الأمريكان والبريطانيين (الذين هم أقوى قوة عسكرية في العالم) بأن يوقعوا على اتفاقيات دولية ملزمة ونافذة بإنهاء كل متعلقات قضية لوكربي الجنائية والسياسية تماماً، وضمان عدم ملاحقة الدولة الليبية والمواطنين الليبيين في أي جرائم سابقة لسنة 2006.
وقد تقدم عضو الكونغرس الأمريكي حينئذ، والرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، أنتوني بايدن بمشروع قرار للكونغرس بهذه الاتفاقية ووافق الكونغرس (الجسم التشريعي في أمريكا) وصدر قانون رقم 110/103 لسنة 2008 بالخصوص.
وفوق هذا، طالبت القيادة الليبية أن يناظر هذا التشريع الصادر من الكونجرس تشريع مماثل يصدر من الرئاسة الأمريكية نفسها. وبالفعل أصدر الرئيس الأمريكي "جورج بوش الإبن" المرسوم الرئاسي رقم 477/13 سنة 2008 بالتأكيد على تشريع الكونغرس وحماية ليبيا ورعاياها من أي ملاحقة جنائية أو سياسية مستقبلاً.
مع العلم، بأن تشريع الكونغرس والمرسوم الرئاسي يضمنان أيضاً حصانة كاملة لليبيا ومواطنيها حتى ضد قضية الشرطية البريطانية، وقضايا الجيش الجمهوري الإيرلندي، وقضية الطائرة الفرنسية يو تي إي.
أما بخصوص التعويضات المخصصة لقضية لوكربي فإن ليبيا لم تدفع قرشاً واحداً من ميزانيتها العامة لها. فقد قررت القيادة الليبية فتح صندوق لتعويض ضحايا قضية لوكربي حسب حكم المحكمة النافذ ولكن يضاف إليهم ضحايا الغارة الأمريكية الغاشمة على مدينتي طرابلس وبنغازي سنة 1986.
تضخ الأموال لهذا الصندوق حصراً من مساهمات تدفعها شركات النفط الأمريكية التي ترغب في العودة للعمل في ليبيا. وتم بالفعل المساهمة بأكثر من 300 مليون دولار للضحايا الليبيين وآكثر من 6 مليار لضحايا لوكربي الأكثر عدداً والمتعددي الجنسية.
لم يدفع الليبيون قرشاً واحداً من هذه التعويضات.
إذن ليبيا السيدة حينها حصنت الوطن الليبي، وحمت المواطنين الليبيين، وصانت الأموال الليبية من خبث وتآمر الأمريكان والبريطانيين بمعاهدات دولية وتشريعات برلمانية، ومراسيم رئاسية على أعلى مستوى دون خسارة أو إهانة للدولة الليبية.
هذه المعلومات ليست كلاماً مرسلاً، ولا هدرزة في الهواء، ومصادرها موجودة بدأً من المعاهدات المكتوبة، إلى المراسيم الرئاسية، إلى التشريعات الكونغريسية، إلى التصريحات الرسمية، إلى التقارير الدبلوماسية، إلى التحقيقات الصحفية المتوفرة حتى في الإعلام الأمريكي والبريطاني نفسه.
إذن، الذي حدث الآن في ديسمبر 2022 من تسليم غير قانوني للمواطن الليبي بوعجيلة مسعود المريمي لا علاقة له بالدولة الليبية السيدة سابقاً، بل له علاقة حصرية بالدولة الليبية المنهارة حالياً.
إنها الدولة الحالية التابعة الساقطة المسلوبة الإرادة التي أنتجتها نكبة فبراير بتخطيط وترتيب مسبق من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكل القوى الغربية التي تريد السيطرة على نفطنا وأرصدتنا وأمننا ومستقبلنا ومستقبل أولادنا.
الحل هو إذن في انتزاع بلادنا من براثن النكبة الفبرايرية وبناء وطن يجمعنا دون استثناء حتى نستعيد سيادة ليبيا ووحدتها وكرامتها المهدورة، ليس لخاطر تيار سياسي واحد، بل لخاطر كل الليبيين والليبيات من أقصى شرق الوطن إلى شماله إلى جنوبه.
ويا سيدي، حتى لو إنت شاد في فبراير. ورينا وين الكرامة الليبية المسلوبة، والسيادة الليبية المنتهكة، والاستقلالية الليبية المبيوعة، وأين صون وحفظ المواطن الليبي من البيع الرخيص للأمريكان بدون قانون ولا حقوق ولا ضمانات... وتفضل احني بعدها نقرعوا لك ومعاش نحكوا عليها فبراير.
... وبس!
د. موسى ابراهيم