إعلان

تابعنا على فيسبوك

خيارات تركيا الصعبة في ليبيا

ثلاثاء, 04/04/2023 - 18:30

تركيا تواجه معضلة في سياستها الخارجية تجاه ليبيا

في 9 يناير 2023، علقت محكمة ليبية صفقة للتنقيب عن الطاقة بين تركيا وحكومة الوحدة الوطنية الليبية التي يرأسها عبدالحميد الدبيبة وتتخذ من طرابلس مقرا لها والتي تم توقيعها في الأصل في أكتوبر 2022. واحتجت وزارة الخارجية التركية على الفور على هذا الإجراء، وصرح وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو أن "النص مثل مذكرات التفاهم التي وقعتها ليبيا مع دول أخرى، لا تحتاج إلى تمريرها من قبل البرلمان في ليبيا". كما أعلنت أنقرة أن الحكومة الليبية لا تزال ملتزمة باتفاقية الهيدروكربونات على الرغم من حكم المحكمة، وأرسلت رئيس استخباراتها لزيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة.
يكشف هذا التعقيد عن مأزق تركيا الحالي في ليبيا. فمن ناحية، فتحت السلطات التركية قنوات للحوار مع مجلس النواب الليبي ومقره طبرق، حيث تستضيف رئيس البرلمان عقيلة صالح وتدعو إلى حل دبلوماسي يوحد بين الهيئتين الحكوميتين المتنافستين في ليبيا. لكن من ناحية أخرى، فإن التعاملات الحصرية بين أنقرة وحكومة طرابلس تتعارض مع هدف تركيا الخاص بمعالجة الانقسامات بين الفصائل المتناحرة في ليبيا، وهو في النهاية أفضل وسيلة لتأمين مصالح تركيا في شرق البحر المتوسط. وقد تجد أنقرة أن الانقسامات الليبية مفيدة في الحصول على المزيد من التنازلات في مفاوضاتها، لكن استغلال هذه الانقسامات سيعني تعميقها أكثر بدلا من خدمة الوحدة الليبية. وبالتالي، تواجه تركيا معضلة في السياسة الخارجية في ليبيا، ولم تتخذ بعد قرارا حازما بشأن أفضل السبل للمضي قدما.
ثلاثة جوانب مهمة
هناك عدة عوامل تشكل معضلة تركيا بشأن سياستها تجاه ليبيا. أولا، يعد تغيير الأولويات في السياسة الخارجية التركية على نطاق أوسع محركا مهما لقرارات السياسة في ليبيا. وقد بدأت الحكومة التركية الآن في إصلاح العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة، التي كانت منافسا رئيسيا لتركيا في تصعيد حرب بالوكالة تعتمد على الطائرات بدون طيار خلال الحروب التى جرت بين الاطراف الليبية. كما أنشأت أنقرة انفتاحا دبلوماسيا في السعودية ومصر، والقوى الإقليمية الأخرى التي توحدت في مواجهة سياسة تركيا الطموحة في القرن الأفريقي وليبيا. وتعتبر مصافحة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي علامة واضحة على رغبة أنقرة في مسار دبلوماسي إلى الأمام لحل الأزمة الليبية.
ثانيا، تمثل الديناميكيات المتغيرة بين النخبة السياسية الليبية خطرا على حسابات تركيا الاستراتيجية. فقد تراجعت علاقات أنقرة القوية مع فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المؤقتة والذي عينه مجلس النواب، بعد أن لجأ باشاغا إلى مصر وفرنسا للحصول على الدعم. وفي العام الماضي، أحبطت الميليشيات  محاولات هجوم باشاغا المسلحة ضد حكومة الدبيبة في طرابلس، مما سمح للدبيبة بالخروج منتصرا. ومع ذلك، فإن الدبيبة لا يزال غير قادراً على السيطرة الكاملة على غرب البلاد، وهي حقيقة تجعل تركيا غير متأكدة من أين تتحوط رهاناتها.
ثالثا، لا تساعد الانتخابات الرئاسية التي تقترب بسرعة في تركيا، والتي من المقرر إجراؤها في مايو 2023، على معايرة الاتصالات الاستراتيجية التي تهدف أنقرة إلى توضيحها. ويقدم قادة المعارضة الأتراك رؤى بديلة للأزمة الليبية، وبالتالي يخلقون الأمل والشكوك حول مستقبل السياسة التركية تجاه ليبيا.
ليبيا وتركيا الدبلوماسية الإقليمية الجديدة
اندلع الجدل في السياسة التركية بعد نشر صور مصافحة أردوغان والسيسي. فلم يستطع أنصار الرئيس التركي المحافظين تصديق أن أردوغان اتخذ مثل هذه الخطوة، التي قد تضر بصورة الرجل القوي في الداخل، خاصة في الوقت الذي يدير فيه حملة في سباق انتخابي محكم. ورأى آخرون أن أردوغان ربما يحاول التواصل مع الأتراك العلمانيين والقوميين الذين غالبا ما ينتقدون ميوله الأيديولوجية. ومهما كان السبب، فإن إحدى الحقائق حول التقارب بين أردوغان والسيسي واضحة إلى حد ما بالنسبة إلى خبراء السياسة الخارجية: حيث تسعى الحكومة التركية إلى إيجاد طريقة لكسر العلاقات القائمة بين مختلف الدول التي تشكل تحالفات ضد تركيا في شرق البحر المتوسط من خلال تقديم مبادرات دبلوماسية جديدة لإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر، تهدف تركيا إلى القضاء على الزخم الذي اكتسبته اليونان وقبرص في السنوات القليلة الماضية. فقد أصبح الرئيس السيسي لاعبا رئيسيا في سياسات الطاقة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يضر أحيانا بالمصالح التركية. وبعد فترة وجيزة من توليه رئاسة مصر، عقد سلسلة من الاجتماعات مع المسؤولين اليونانيين والقبارصة للتوصل إلى اتفاق بشأن استيراد الغاز الطبيعي من قبرص. وقاد لاحقا الجهود المبذولة لإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، والذي استبعد تركيا. وبالتالي، لا يمكن فصل العلاقات التركية المصرية عن التطورات في ليبيا، التي لها أهمية جيوستراتيجية لكلا البلدين.
قبل اجتماع أردوغان والسيسي في قطر، كان المسؤولون المصريون يشيرون إلى ليبيا باعتبارها القضية الرئيسية التي تعرقل التطبيع بين القاهرة وأنقرة. وتطالب القاهرة بانسحاب العسكريين الأتراك والمقاتلين الأجانب التابعين لها، بينما ترفض أنقرة اتخاذ مثل هذه الخطوات التي قد تضعف موقفها في المفاوضات الدبلوماسية. وردا على اتفاق أكتوبر 2022 بين تركيا وحكومة طرابلس، تقدمت مصر بإعلان أحادي الجانب لترسيم حدودها البحرية الغربية. وبهذه الخطوة، رفضت القاهرة كل مطالبة تركية مدرجة في مذكرتي 2019 و 2022 الموقعة بين حكومة طرابلس الليبية وأنقرة. كما وقعت مصر مذكرة تعاون حكومية دولية جديدة مع اليونان لتعزيز اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة السابقة مع البلاد في عام 2020.
حقيقة أن تركيا امتنعت عن انتقاد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشكل مباشر بسبب هذا الإعلان الأحادي أمر واضح. فقد كان الرد التركي هو دعوة مصر وليبيا لبدء مفاوضات لحل خلافاتهما، مع التأكيد أن تركيا تفضل الحوار "في أقرب وقت ممكن". وتدرك أنقرة أن الصفقات مع حكومة طرابلس لا يمكن أن تتحقق دون مصادقة طرف ثالث، وأن التوصل إلى توافق مع القاهرة هو السبيل الوحيد لضمان المصالح الاقتصادية التركية في ليبيا. ومع ذلك، لم تكتشف أنقرة بعد كيفية التوصل إلى توافق مع القاهرة دون تقديم الكثير من التنازلات.
تكتيكات التصعيد التركية ستكون لها حدودها. إذ لا تريد أنقرة إفساد علاقاتها المحسّنة مع الإمارات وإسرائيل والمملكة العربية السعودية. وقد لا يؤدي تصعيد التوترات إلى إحياء الشراكة بين مصر وإسرائيل والإمارات مع اليونان وقبرص فحسب، بل قد يدعو أيضا إلى دعم عسكري روسي لشرق ليبيا. إن ما تريده تركيا هو تأمين مصالحها الاقتصادية في ليبيا، والذي سيتحقق على الأرجح من خلال إنشاء حكومة ليبية موحدة.
الرمال المتحولة في السياسة الليبية
ينبع نضال تركيا لإيجاد المسار الصحيح للمضي قدما أيضا من الديناميكيات المتغيرة بين النخبة السياسية الليبية. حيث يُعد دور فتحي باشاغا، الذي كان وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق الوطني السابقة التي تتخذ من طرابلس مقرا لها، قبل أن يغير ولاءه للانضمام إلى الحكومة المنافسة التي تتخذ من طبرق مقرا لها في شرق ليبيا، حالة مثيرة للاهتمام. فقد كان باشاغا، الذي كان متحدثا باسم المجلس العسكري مصراتة، معروفا بعلاقاته القوية مع جماعة الإخوان المسلمين وتركيا. وبصفته وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق الوطني، اعتبره البعض أكثر نفوذا من رئيس الوزراء آنذاك فايز السراج. وبدعم من تركيا، لعب باشاغا أيضا دورا رئيسيا في الدفاع عن طرابلس ضد الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، ووعد بكبح جماح الميليشيات المسلحة التي كانت تسيطر على طرابلس. لكنه توصل بعد ذلك إلى اتفاق مفاجئ مع اللواء حفتر وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، وفي فبراير 2022، اختاره مجلس النواب لتشكيل حكومة مؤقتة على أساس أن ولاية حكومة الدبيبة التي تتخذ من طرابلس مقرا لها قد انتهت في 24 ديسمبر 2021، وهو الموعد الذي كان من المفترض فيه إجراء الانتخابات على الصعيد الوطني - ولكن لم يتم إجراؤها - بموجب خطة السلام التي تمت بوساطة الأمم المتحدة. وتمثل مسيرة باشاغا الطويلة والمتعرجة على جانبي الانقسام الليبي الحالي مثالا على التحديات التي تواجهها تركيا في تقرير أفضل السبل لإدارة السياسة الخارجية.
كما شهدت ليبيا تصعيدا عنيفا في العام الماضي. ففي مايو 2022، بدأت الميليشيات التابعة لباشاغا والدبيبة باللجوء إلى المعارك المسلحة في صراعها على السلطة. وردا على صعود باشاغا في الشرق، اختارت تركيا التعامل مع الحكومة التي تتخذ من طبرق مقرا لها وفتحت انفراجات دبلوماسية فيها. وزار السفير التركي في طرابلس، برفقة رجال أعمال أتراك، بنغازي لبحث آفاق عودة رواد الأعمال الأتراك إلى شرق ليبيا لإنهاء مشاريع البناء التي أوقفتها الحرب بين الفصائل المتناحرة. كما تضمنت المناقشات قضايا مثل إعادة فتح القنصلية التركية في بنغازي وإحياء رحلات الخطوط الجوية التركية إلى المدينة.
في أغسطس 2022، التقى أردوغان مع صالح، مما يشير إلى جدية تركيا في التوصل إلى اتفاق مع حكومة طبرق. وأعلن المسؤولون الأتراك أن أنقرة لن تميز بين مناطق ليبيا لأن ليبيا "كل لا يتجزأ". وبعد فترة وجيزة من زيارة صالح لتركيا، هدفت حكومة باشاغا إلى توجيه ضربة قاضية لطرابلس بهجوم عسكري سريع. لكن حكومة الدبيبة والمليشيات المتحالفة معها نجحت في صد المحاولات رغم سقوط ضحايا. وهكذا أثارت إخفاقات باشاغا السياسية والعسكرية شكوكا جدية حول أهليته للقيادة وأثارت انتقادات حادة في مجلس النواب. ومع إجراء تركيا حاليا محادثات مع الحكومتين الليبيتين، فإنها تواجه الآن معضلة. إذ أن دعم أنقرة لحكومة طرابلس مهم كورقة مساومة للحصول على امتيازات اقتصادية في شرق ليبيا. لكن حكومة طرابلس برئاسة الدبيبة ليست في وضع يمكنها من توحيد البلاد. وليس نجاح الدبيبة، بل نجاح باشاغا هو ما قد يكون مرغوبا فيه لأنقرة لأن هذا النجاح سينتج ليبيا موحدة تتمتع بعلاقات عملية مع تركيا. ولن تنجح مثل هذه الاستراتيجية إلا إذا تمكنت حكومة باشاغا من تحقيق الوحدة دون إثارة حلقة جديدة من التصعيد العنيف. ومع ذلك، فإن الدعم الاستراتيجي التركي لطرابلس يقوض محاولة شرق ليبيا للتوحيد باستخدام الحلول الدبلوماسية. وبعبارة أخرى، قد تتعارض بعض أفعال تركيا مع بعضها البعض، مما يعيق أهدافها في ليبيا.
الانتخابات مهمة
ستكون الانتخابات التي لم يتم تحديدها بعد في ليبيا والانتخابات الرئاسية لعام 2023 في تركيا ذات أهمية كبيرة. إذ أن أحزاب المعارضة التركية ترسل رسائل مختلفة إلى السلطات الليبية والمصرية، التي تبحث عن إشارات من أنقرة. وفي الآونة الأخيرة، صرح وفد زائر من نواب المعارضة التركية إلى بنغازي أنه لا يدعم الصفقات البحرية الأحادية الجانب التي أبرمها أردوغان. وبالتالي، فمن المعقول أن نتوقع أن فوز أردوغان في الانتخابات سيمكنه من التفاوض مع شرق ليبيا، وكذلك مع القاهرة. ومع ذلك، إذا خسر أردوغان، فقد لا تظل سياسة تركيا تجاه ليبيا طموحة كما هي حاليا. ومن المرجح أن يستمر تأمين المصالح المالية في ليبيا في سياسة الدولة التركية بغض النظر عن نتيجة الانتخابات المقبلة. ومع ذلك، قد يتم إسقاط التوترات البحرية المتزايدة في شرق البحر المتوسط من أجندة سياسة أنقرة في المستقبل. وهذا هو السبب في أن الحكومة التركية لا تستطيع بسهولة إقناع الأحزاب المعارضة بالحاجة إلى مستقبل مشترك قبل انتخابات مايو الحاسمة.
ومع ذلك، فإن السؤال هو إلى متى يمكن أن تظل الاضطرابات الليبية تحت السيطرة دون وجود احتمال جدي لإجراء انتخابات على مستوى البلاد. وفي بعض أجزاء ليبيا، أدى مناخ الإفلات من العقاب إلى تأجيج الجرائم المروعة ضد المدنيين. وتوضح التقارير  الصادرة عن محققين تابعين لمجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة وعن منظمة العفو الدولية عن تفاقم ظاهرة القتل غير القانوني والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة والاختفاء القسري والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي والتهجير القسري - دون خوف من العواقب". إن الصدمة وعدم الثقة الناجمين عن مثل هذه الجرائم ستجعل التوحيد صعبا.
خيارات تركيا الصعبة
تجلس تركيا حاليا على الحياد فيما يتعلق بخارطة الطريق لقراراتها المستقبلية في ليبيا. وتتعلق معضلة المجلس في المقام الأول بإيجاد الهيئة السياسية الشرعية الصحيحة التي يمكنها تقديم قرارات ذات مغزى. وهذا هو السبب في أن المصلحة التركية ستخدم على أفضل وجه من خلال دعم انتخابات ليبية حرة ونزيهة، على الرغم من أن هذا هدف يصعب تحقيقه. ولا شيء سوى الانتخابات يمكن أن توفر الشرعية ويقيم الجسور بين الفصائل المتنافسة، وقد تعهدت حكومة الدبيبة بتسليم السلطة فقط إلى حكومة منتخبة. ولذلك فإن جهود تركيا في تشجيع الانتخابات الليبية ستلقى دعما من طرابلس. وبدون انتخابات حرة ونزيهة، فليس هناك أرضية صلبة يقف عليها مجلس النواب في شرق ليبيا. وقد تؤدي إخفاقات باشاغا إلى انقسامات داخل معسكر شرق ليبيا وبالتالي إلى تآكل الشرعية السياسية التي يتمتع بها مجلس النواب. وفي مثل هذا السيناريو، سوف تتلاشى آمال تركيا المتعلقة بحكومة طبرق.
من دون الاستفادة من الشرعية العامة من خلال انتخابات حرة ونزيهة، من المرجح أن تظل النخبة السياسية الليبية منقسمة وضعيفة. وعلى الرغم من أن أنقرة قد تجد أن الانقسامات الليبية مفيدة في الحصول على المزيد من التنازلات في مفاوضاتها مع القاهرة ومع الحكومات الليبية المتنافسة، فإن استغلال هذه الانقسامات سيضر بقضية الوحدة الليبية التي تظل المفتاح لتأمين المصالح الجيوسياسية والاقتصادية التركية في شرق البحر المتوسط.

من صفحة محمد الأمين على الفيس بوك