للتمرد الصينى على سياسات الهيمنة والغطرسة والتفرد الأمريكية أوجهاً كثيرة وهذا ما يعطيه الأهمية التى تحظى بها عند الأمريكيين كمصدر أول للتهديد. أبرز، وربما أهم، هذه الأوجه هو ذلك التمرد الاستراتيجى، أى التمرد والتحدى عبر امتلاك القدر اللازم النوعى والكيفى من مصادر القوة الاستراتيجية الشاملة: الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. فالصين ، وعبر هذه المصادر المحورية للقوة، لم تعد قادرة فقط على أن تقول "لا" لسياسات الاستعلاء وإملاء الشروط الأمريكية ، بل وأن تطرح نفسها كقوة شريكة ، إن لم تكن بديلة، فى قيادة نظام عالمى جديد أكثر عدالة وديمقراطية.
وإذا كانت الصين قد أبهرت العالم أول ما أبهرت بقوتها الاقتصادية عندما استطاعت أن تنافس الولايات المتحدة الأمريكية فى حجم الناتج القومى الإجمالى الذى يتقدم بمعدلات متسارعة عكس الحالة الأمريكية، حيث من المقدر أن يوازى نظيره الأمريكى حتى عام 2025 أو بعد ذلك بقليل، فإنها باتت تفوق اقتصاديا على الولايات المتحدة وفق مؤشرات أخرى للتقدم. فالميزان التجارى، بين البلدين، يعمل لصالح الجانب الصينى لعدة سنوات متتالية حيث بلغ 418,23 مليار دولار فى العام 2018 و404,1 مليار دولار فى العام 2022، كما بلغ حجم الاستثمار الصينى فى سندات وأذونات الخزانة الأمريكية 1060,1 مليار دولار فى بداية عام 2022، وتعتبر الصين المقرض الثانى للولايات المتحدة، وكانت لسنوات هى الدائن الأول للولايات المتحدة، لكن الأخطر من ذلك هو ما تقوم به الآن، بالتعاون مع شركاءها فى منظمة "بريكس" خاصة روسيا من أدوار لكسر أهم مرتكزات القوة الاقتصادية الأمريكية متمثلة فى الدولار الأمريكى، عبر تكريس سياسة التبادل التجارى بالعملات الوطنية متحررة من الدولار بينها وبين دول هذه المجموعة التى تضم إلى جانب الصين روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، والسعى لإصدار عملة بديلة للدولار ، وربما تصدر هذه العملة فى مؤتمر المجموعة الذى سيعقد فى جنوب أفريقيا فى شهر أغسطس القادم وعندها سوف يهتز عرش الدولار ومعه النفوذ الأمريكى، إذا أضفنا إلى ذلك التأثير المستقبلى لسياسة "الحزام والطريق" الاقتصادية الصينية التى أطلقها الرئيس الصينى عام 2013 وتهدف إلى "بناء سوق كبيرة موحدة" يجمعها التبادل التجارى والثقافى والثقة وهدفها "تعزيز الازدهار العالمى"، ستكون الصين مع اكتمالها قوة اقتصادية عالمية مؤثرة بشبكة واسعة تضم عشرات الدول، تجمعها روابط التعاون والثقة المتبادلة، باعتبارها عنوانا للدور الصينى العالمى المنتظر .
أما القوة العسكرية الصينية فقد بلغت مستوى أربع القيادات العسكرية الأمريكية للدرجة التى دفعت قائد القوات الأمريكية الإستراتيجية استراتكوم" الجنرال تشارلز ريتشارد إلى القول أمام الندوة السنوية لرابطة الغواصات البحرية وتحديث الصناعة أن "المنافسين مثل الصين يتفوقون على الولايات المتحدة بطريقة دراماتيكية وعلى الولايات المتحدة أن تُصعّد من لعبة الردع الخاصة بها، وإلا ستنهار"، وزاد على ذلك القول : "بينما أقوم بتقييم ردعنا ضد الصين، فإن السفينة تغرق ببطء.. إنها تغرق ببطء، لكنها تغرق، لأنهم فى الأساس يصنعون القدرة فى الميدان أسرع مما نحن عليه.. ومع استمرار هذه المنحنيات ، لن يكون الأمر مهما إلى أى مدى نحن جيدون، أو مدى جودة قادتنا، أو ما مدى جودة خيولنا.. لن يكون لدينا ما يكفى منها، وهذه مشكلة على المدى القريب جداً". وهو ما اعتبر اشارة إلى تفوق الصين فى عدد سفنها الحربية، وتسريعها بناء المزيد من حاملات الطائرات.
لم تأت هذه الشهادة من قائد عسكرى أمريكى له وزنه ومكانته من فراغ فالقدرات العسكرية الصينية، التى كانت تحتل المرتبة الثانية من الاهتمام بعد أولوية التفوق الاقتصادى للصين، باتت تنافس هذا التفوق الاقتصادى للصين فى ظل إدراك صينى متنامى بعنف العداوة الأمريكية للصين. فالجيش الصينى الذى يحتل المرتبة الأولى فى العالم من حيث العدد (مليونين و35 ألف رجل وامرأة" والثانى من حيث الميزانية قرر زيادة مخصصاته بنسبة 7,2% فى عام 2023 الحالى، الأمر الذى سيسمح له بمواصلة مهماته التحديثية.
أما من حيث التسليح فالصين تملك 350 رأساً نووياً وفقاً لأرقام عام 2022 كما أوردها معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، وتمتلك الصين ثلاث حاملات طائرات، وتحرز القوات الجوية الصينية تطوراً سريعا على الأخص بمقاتلات جديدة مثل "16-J " والمقاتلات الشبح (20J) وهى طائرات "تضاعف على الأرجح" معدل انتاجها السنوى خلال السنوات الثلاث الماضية، أما بالنسبة للسلاح البحرى فإن الصين تقدم أحيانا على أنها أول قوة بحرية فى العالم من حيث عد السفن قبل الولايات المتحدة. هذه القوة العسكرية هى التى مكنت الصين من امتلاك القدرة على إظهار التحدى القوى للولايات المتحدة فى بحر الصين الجنوبى ومجمل إقليم جنوب شرق آسيا، وإجراء المناورات العسكرية قبالة سواحل تايوان، للدرجة التى دفعت جنرالا أمريكيا هو مايكل مينيهان المنتمى إلى سلاح الجو إلى التحذير من المخاطر العالية لنشوب حرب مع الصين عام 2025 على الأرجح بسبب تايوان، وليست هناك شهادة على التفوق العسكرى الصينى وبالذات القدرات التسليحية الصينية من التحذيرات الأمريكية للصين من العواقب الخطيرة لأى تورط صينى فى امداد روسيا بأسلحة متطورة فى حربها فى اوكرانيا خشية أن يؤدى ذلك إلى قلب موازين القوى فى هذه الحرب لصالح روسيا.
وإلى جانب القوتين الاقتصادية والعسكرية دخلت الصين أيضا ميدان التنافس على التفوق فى امتلاك القدرات التكنولوجية المتقدمة والمتفوقة . ردود الفعل الأمريكية العصبية على شركة "هواوى الصينية" العملاقة فى انتاج الهواتف المحمولة وتصنيع أجهزة إرسال الجيل الخامس المرتبطة بالتقنيات العالية وكذلك على تطبيق "تيك توك" التابع لشركة "بايت دانس" الصينية ومنع تداوله على المستويات الرسمية والشخصية فى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبية بحجة حماية الأمن القومى خشية "التهديد السيبرانى" الصينى، كلها شهادات أمريكية وغربية على ما نجحت الصين فى تحقيقه من تقدم فى مجال التكنولوجيا المتقدمة، وفى السنوات الأخيرة دخلت الصين مجال التحدى مع الولايات المتحدة فى تصنيع "الشرائح الإليكترونية" خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكى جو بايدن (أكتوبر 2022) بفرض ضوابط وقيود واسعة على الصادرات التكنولوجية بهدف منع الصين من الحصول على أشباه الموصلات المتطورة . فقد جاء الرد الصينى هو التحدى الذى اتخذه المؤتمر الوطنى للحزب الشيوعى (أكتوبر 2022) لمواجهة الحرب التكنولوجية. ظهر ذلك فى خطاب الرئيس الصينى شي جينج بينج أمام هذا المؤتمر حيث رصد المراقبون أن كلمة "التكنولوجيا" وردت فى هذا الخطاب 40 مرة، ووعد بتحقيق الاكتفاء الذاتى فى مجال التكنولوجيا المتطورة الذى دشنته الصين تحت اسم "صنع فى الصين عام 2025" عام 2015 من أجل إعادة تركيز صناعتها على التنافس فى مجال التحول إلى التشغيل الآلى والشرائح الإليكترونية الدقيقة.
لقد أدى التنافس والصراع مع الولايات المتحدة إلى تنامى "النزعة القومية التكنولوجية" فى الصين ولأول مرة يضيف الحزب الشيوعى الصينى الحاكم فئة جديدة إلى قائمة أولوياته وهى "تحقيق قوة كبيرة مدعومة من التكنولوجيا والعلم والتعليم" وعندما تنجح الصين فى ذلك ستكون قد تكاملت عناصر قوتها وعندها ستكون قادرة بجدارة على ممارسة التمرد ضد السياسة الأمريكية.
د. محمد السعيد إدريس
[email protected]
جريدة الأهرام