بعد 12 عامًا من قصف طائرات حلف “الناتو”، بتحريضٍ ثُلاثيّ أمريكيّ فرنسيّ بريطانيّ للإطاحة بالنظام الليبي، و”سحل” رئيسه معمر القذافي، والاعتداء جنسيًّا على جُثمانه، تحوّلت ليبيا إلى بلدِ العجائب الصّادمة، حيث لا دولة، ولا ديمقراطيّة، ولا أمن وأمان واستِقرار، بل فوضى دمويّة عارمة، ومُسلْسَلًا من المساخِر.
أحدث هذه الصّدمات، وأقساها، اللّقاء السرّي بين السيّدة نجلاء المنقوش وزيرة الخارجيّة في حُكومة “الوحدة الوطنيّة” مع إيلي كوهين نظيرها الإسرائيلي في العاصمة الإيطاليّة، لتطوير العلاقات الثنائيّة، والاعتِراف المُتبادل، ودفع تعويضات لليهود الليبيين، في انتهاكٍ فاضحٍ للقانون الليبي رقم 62 الصّادر عام 1957 الذي “يحظر على كُل شخص طبيعي، أو اعتباري، أن يعقد بالذّات، أو بالواسطة، اتّفاقًا من أيّ نوعٍ مع هيئات أو أشخاص مُقيمين في إسرائيل، أو مُنتمين إليها، بجنسيّتهم أو يعملون لحِسابها أو مع من ينوب عنهم، ويُعاقب كُل من يُخالف ذلك بالسّجن مُدّة لا تقل عن ثلاثِ سنوات، ولا تزيد عن 10 سنوات، ويجوز الحُكم بغرامةٍ ماليّة”.
***
بعد مُرور أُسبوع على اقتِراف السيّدة المنقوش هذا الإثم، تحرّك أخيرًا المجلس الأعلى للدّولة، وقرّر النائب الليبي العام، يوم أمس الأوّل السبت تشكيل لجنة لتقصّي الحقائق، حول ذلك اللّقاء التّطبيعي، بعد الاحتِجاجات الشعبيّة المُشرّفة التي عمّت مُعظم المُدُن الليبيّة وعلى رأسِها العاصمة طرابلس، ورُغم خُطورة هذه الجريمة، لطعنها كرامة ليبيا الوطنيّة بخنجرٍ مسموم، فلم يحضر اجتماع المجلس الأعلى للثورة إلّا 48 عُضوًا من مجموع 154 عُضوًا، أيّ أقل من الثّلث!
ما يُثير السّخرية الأنباء التي تردّدت على الكثير من المنابر الإخباريّة، ومواقع التواصل الاجتماعي، أن سِيادة النائب العام شكّل فِعلًا لجنة للتّحقيق في هذه الخِيانة بدأت التّحقيق فِعلًا مع السيّدة وزيرة الخارجيّة الهاربة، ولكن عبر “الواتس آب”.
تحقيق في هذه الجريمة البَشِعَة والمُهينة عبر “الواتس آب”؟ ومع وزيرة خارجيّة حُكومة من المُفترض أنها ديمقراطيّة، وتستمدّ شرعيّتها من الشعب الليبي وإرثه الوطنيّ الذي عزّزه الشهيد عمر المختار، أنّها سابقة قانونيّة لا نعتقد أنها حدثت في أيّ دولةٍ أُخرى في العالم، فاليوم تحقيقٌ عبر “الواتس آب” وغدًا تنفيذ حُكم السّجن على “التويتر” والإعدام عبر “الإنستغرام”.
الأمر المُؤكّد أن حُكومة طرابلس الليبيّة، ومجلسها الرئاسي، ومدّعيها العام ما زالت على تواصلٍ مع الوزيرة الآثمة، ويعرفون مكان إقامتها، والبلد الذي تعيش في كنفها، لأنّهم هُم الذين سهّلوا لها عمليّة الهُروب، ووفّروا لها الطّائرة الخاصّة التي نقلتها إلى وجهتها الخارجيّة، والملاذ الآمِن، هي وكُل الوفد المُقرّب منها، نساء ورجالًا ومسؤولين، ولكن لماذا لا يتم التّحقيق مع رئيسها عبد الحميد الدبيبة، وقائد قوّات الأمن وجِنرالاته الذين ساعَدوها على الهرب؟
السُّؤال الذي يطرح نفسه بقوّةٍ هو عن عدم مُطالبة مجلس الدّولة، ومدّعي عام الدّولة التي تُوجد فيها السيّدة المنقوش حاليًّا (يُعتقد أنّها بريطانيا) بتسليمها للمُثول أمام القضاء للدّفاع عن نفسها، أو أن تذهب إليها هذه اللّجنة حيث تتواجد وتُحقّق معها بتُهمة اختِراق القانون، وهو قانون لم تضعه جماهيريّة القذافي، وإنّما العهد الملكي ومُؤسّساته المُنتخبة ديمقراطيًّا، لتُقرّر بعدها خطواتها القانونيّة المُقبلة، أليست بريطانيا الدّولة التي دعمت تدخّل طائرات حلف “الناتو”، وهلَكتنا مُحاضرات حول الديمقراطيّة وسِيادة القانون؟
إذا كانت السيّدة المنقوش بريئة من كُلّ التّهم المُوجّهة إليها، وأن ادّعاءاتها بأنّ اللّقاء مع كوهين كان صُدفة، أو لم تعرف هُويّته، فلماذا تهرب من ليبيا الحُريّة والعدالة، ولماذا لا تقف أمام القضاء للدّفاع عن نفسها، وتفضح كُلّ الذين ورّطوها في هذه المِصيَدة إذا كانت مِصيَدة فِعلًا؟
“الثورة” في ليبيا في شباط (فبراير) عام 2011 لم تأتِ من أجلِ الديمقراطيّة، ولا دِفاعًا عن قيم حُقوق الإنسان ومبادئه، وإنّما لإزالة كُل العقبات أمام التّطبيع، وأبرزها حُكم العقيد معمر القذافي، وتحويل ليبيا إلى “محميّةٍ” أو “مُستعمرةٍ” إسرائيليّةٍ في شمال إفريقيا، وبِما يُؤدّي إلى وقف كُل جُهودها المبذولة لإصدار الدينار الإفريقي وفتح أبواب القارّة السّمراء على مِصراعيها أمام النّفوذ الإسرائيلي، وتشديد الخِناق على الجزائر.
جوليانو أماتو رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق أكّد في مُقابلةٍ نُشرت أوّل أمس السبت مع صحيفة “لاريوبابليكا” أنّ صاروخًا تابعًا للقوّات الجويّة الفرنسيّة أسقط طائرة مدنيّة فوق البحر المتوسّط عام 1980 في مُحاولةٍ فاشلةٍ لاغتِيال الزعيم معمر القذافي، وناشد السيّد جوليانو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التّحقيق في هذه الجريمة، والوصول إلى الحقيقة، أيّ إمّا تبرئة الرئيس ساركوزي الذي كانَ رئيسًا في حينها أو إدانته بقتل 81 راكبًا كانوا على متنها، وقد نجا القذافي الذي كان عائدًا إلى بلاده بعد مُشاركته في مُؤتمر بيوغسلافيا بأُعجوبةٍ، وبفضلِ تحذير إيطاليا من مُحاولة الاغتِيال الفرنسيّة هذه حسب رئيس الوزراء المذكور آنفًا.
***
من “فبْركَ” مُؤامرة تفجير طائرة لوكربي، وتوريط ليبيا والرئيس القذافي شخصيًّا فيها، من غير المُستغرب أن “يُفبرك” قصف طائرة مدنيّة كان يُشتبه أن القذافي قد يكون من بين ركّابها، وأن يُوظّف “الديمقراطيّة” لنشْر الفوضى الدمويّة في ليبيا، وأكثر من خمس دُول عربيّة أُخرى.
السيّدة المنقوش كانت وما زالت قمّة جبل جليد لمنظومة ليبيّة حاكمة فاسدة صنَعها الاستِعمار الغربيّ من أجلِ تدمير ليبيا ونزْع أنيابها ومخالبها الوطنيّة، وضمّها إلى قائمة “السّلام الإبراهيمي” المسموم، ولكن هذا لا يعني أنها يجب أن لا تقف أمام القضاء بتُهمة التطبيع واختِراق القانون، ومعها كُلّ الشخصيّات المُتورّطة التي أرادتها أن تكون أداة، وكبْش فِداء، وتخلّت عنها بعد فضحِ خِيانتها.
الشعب الليبي العُروبي المُسلم الأصيل وقبائله الوطنيّة الشّريفة، أفشلوا مُخطّطات “ثوّار الناتو” وأسيادهم، وفي الوقتِ المُناسب في تماهي مع الانقلابات العسكريّة الإفريقيّة المدعومة شعبيًّا التي أطاحت بالهيمنة الفرنسيّة وسرقاتها في بوركينا فاسو، والنيجر، ومالي، والغابون حتّى الآن، والمُطبّعون في ليبيا سيُواجِهون المصير نفسه وقريبًا جدًّا، وستعود ليبيا إلى حُضنها الوطنيّ العربيّ والإسلاميّ.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان