{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}
إن كارثة درنة خاصةً؛ وشرق ليبيا عامةً، قد فُجع بها الشعب الليبي كافةً، بل وفجع بها العالم أجمع، حيث لم يُقتل فيها من كان قرب مجاري الوديان فقط، بل طالت حتى الأبراج السكنية العالية التي رمى بها السيل العرم بالبحر وأهلها بياتٌ نائمون.
والكل في ليبيا والعالم يتساءل، كيف حصل هذا؟ وما هو السبب؟.
قبل ثورة الفاتح، لم تعرف ليبيا أيًا من مشاريع المياه والسدود سوى مشروع نقل المياه من عين الدبوسية قرب درنة إلى قصر الملك بطبرق، حيث كانت درنة وطبرق وباقي المدن عطشى بلا ماء.
وبعد ثورة الفاتح، أُقيمت محطات التحلية في كل مكان، وأُنجز النهر الصناعي العظيم، وأُقيمت السدود لأول مرة في البلاد، فبنيت في السبعينيات مجموعة سدود منها 18 سداً رئيسياً على أهم هذه الأودية الموسمية شرق و وسط و غرب ليبيا، يبلغ متوسط تخزينها السنوي أكثر من 61 مليون متر مكعب، مثل سد وادي المجينين، الذي حفظ الارواح والممتلكات فى طرابلس وضواحيها، والكل يتذكر كارثة فيضان هذا الوادي عام 1966م الذي حصد الارواح ودمر أحياء الصفيح.
كما أُنشئ سد وادي القطارة، وسد وادي كعام وهو أكبر سد ترابي في العالم، وسد وادي درنة الذي قبل إنشائه خلال سنوات (1973-1977) قتل الوادي العديد من الناس في مدينة درنة كما حصل في فيضاني 1959 و 1968 اللذين كانا كارثيين بسبب عدد الضحايا والخسائر المادية.
ما حدث في درنة رجع بذاكرتي إلى آخر زيارة لي للمدينة قبل إندلاع الفتن في بلادنا، حيث كانت المدينة خلية نحل تعمل بها شركات عدة، فقد كان هناك مشروع الـ2000 وحدة سكنية والذي وصلت نسبة الإنجاز به إلى 60%؛ ومشروعا تطوير مصنع الأسمنت والميناء وربطه بجزيرة كريت اليونانية؛ ومشروع الواجهة البحرية للمدينة ؛ و مشروع المنطقة الصناعية بدرنة؛ ومشروع توليد الكهرباء من الرياح؛ و مشروع مطار مرتوبة؛ و مشروع ترميم المدينة القديمة، ومشاريع صحية وتعليمية أخرى.
مدينة درنة هي مدينة المتناقضات، فهي من أنجبت كبار الفنانين والمثقفين والمصرفيين والأطباء والمهندسين وكانت عاصمة الفن والثقافة، ولكنها في نفس الوقت أخرجت أشد الحركات ظلامية ووحشية، وكانت منبت الفكر المنحرف، ففيها شاهدنا لأول مرة قطع الرؤوس وذبح الليبي لليبي الذي بدأ مع ذبح طلاب ثانوية الشرطة في التسعينات؛ إلى مشاهد سحل و تعليق أجساد افراد الشرطة والجيش عام 2011م ؛ إلى قطع رؤوس أهلها في ساحتي مسجدي " العتيق والصحابة".
درنة كانت شرارة الفتنة عام 2011م، ومنها بدأ التمرد المسلح الذي نعاني من تبعاته إلى الآن، فالعدد الذي مات خلال كارثة درنة الآن يُماثل العدد الذي فقدناه في كل حرب من الحروب الماضية ويوازي العدد الذي فقدناه في حالات القتل العمد والقتل الخطأ نتيجة لانتشار السلاح و غياب مؤسسات الدولة.
و هي نفس المدينة التي في عام 2023م وحدت الليبيين وأزالت أحقادهم وهزت وجدانهم، فصحوا من كابوسهم ليعودوا إخوةً متحابين.
هذه هي درنة، وهذا قدرها الذي كتبه اللَّه لها، ولا مغير لقدر اللَّه.
الملك الحسن الثاني كانت له حكمة، "التاريخ مثل تلك المرآة التي تكون داخل السيارة يجب على السائق ان ينظر إليها من حين لآخر إلى الخلف حتى يمكنه أن يسير إلى الأمام بكل أمان".
لهذا دعونا الآن من الماضي ولننظر لحاضرنا ونقرر مستقبلنا.
الذي حصل الآن في درنة رغم كل الإشاعات من تفجير السد ونظريات المؤامرة التي تذكرني هي وأصحابها بمزاعم الـ 5000 مغتصبة وقصف فشلوم وتاجوراء بالطيران؛ وقضية تجارتي للمخدرات التي حُكِم عليَّ بسببها بالإعدام… فأنا أقول لكم: كل هذا مجرد أساطير المنافقين.
الذي حدث أن إنهيار السد الأكبر وهو (ليبيا) ودولتها عام 2011م؛ هو سبب ما حصل في درنة الآن..
الآن لا وجود لمؤسسات الدولة، والمتخصصون غائبون، فعندما كانت هناك دولة، كان هناك موظفين للإشراف و "خفارة" على السد لأخد القراءات الدورية و للإبلاغ عن أي طارئ، و أذكر منهم الموظف (المرحوم بوشوال بورويق بوهيوب) الذي كانت مهمته الإنذار عن أي طارئ برغم أن في ذلك الوقت لا توجد تقنيات الاتصالات والتواصل الموجودة الآن.
وخير مثال على ذلك فيضان عام 1986م وما حدث فيه من إجراءات لمجابهة الكارثة و احتواءها رُغم أن ليبيا كانت في حالة شبه حرب ومواجهة مع أمريكا في ذلك الوقت، ولكن ونتيجة للمتابعة الدورية من الدولة ومؤسساتها على السدود تمت السيطرة على الفيضان وتم تشكيل لجنة خاصة من الأجهزة الأمنية و الخدمية لمتابعة هذه الأزمة ولم تسجل حينها أي خسائر بشرية.
ولاحقاً فى 2003 كلفت الدولة المكتب الاستشارى السويسري (ستوكي) لدراسة وتقييم سدي وادى درنة و لصيانة وتطوير منشآته وبناءاً على الدراسات تم تكليف "شركة أرسيل التركية" فى 2007م لتنفيد دراسات و توصيات المكتب المذكور.
وكانت الشركة قد استلمت الدفعة الاولى من قيمة التعاقد؛ واستلمت أيضاً الموقع وباشرت فى تنفيد بنود التعاقد حيث قامت بتجهيز معامل الاختبارات وجلبت المعدات والآلات، ولكن توقف العمل في 2011م.
وعندما عادت الشركة بعد 2011م وجدت أن معاملها قد أُحرقت وتمت سرقة معداتها و آلياتها، هذا وقد رفعت الشركة دعوى قضائية فى التحكيم الدولي عام 2013م بالتعويض بسبب ما حدث لممتلكاتها المنهوبة.
إضافة لإختفاء الميزانيات التي خصصت لسد درنة و عموم السدود في البلاد بعد عام 2011م و المقدرة بمئات الملايين التي تم صرفها فعلى سبيل المثال تم تخصيص ميزانية لاستكمال صيانة و تطوير سد درنة حيث استبدلت الشركة التركية بشركات محلية و استبدل المكتب السويسري بمكتب عربي و رغم هذا لم ينفذ العقد حتى الآن.
والحال نفسه مع مركز الأرصاد الجوية الذي لم يقم بعمله بسبب سرقة معداته ومقره مرتين، الأولى عام 2011م، والثانية عام 2015م.
للأسف سمع الليبيون من القنوات والإذاعات الدولية عن إعصار سيضرب مدينة بنغازي، فإذا به يلتف ويضرب درنة من الخلف، ونتيجة لضعف الأرصاد في ليبيا ولعدم الإبلاغ تم إخلاء المناطق المتاخمة للبحر، واتجه سكان المدينة للداخل فأتاهم السيل العرم من الجنوب، وهذا طبعاً خطأ بشري آخر، و إن كان غير مقصود سببه غياب الدولة و مؤسساتها و الفوضى التي تعم البلاد.
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ }
كذلك ما حدث من الجهات الأمنية والتي طلبت من السكان عدم مغادرة بيوتهم، الأمر الذي ساهم في حدوث الكارثة، رغم أنه كان بحسن نية لأن الخطأ ليس خطأهم، فالخطأ في عدم وجود دولة من الأساس.
فلا يوجد إشراف ولا خفارة ولا من ينذر عند السد كما كان معمولاً به في السابق، ولا توجد نشرة أرصاد محلية دقيقة وصحيحة، و لا توجد سلطات تتخذ الاجراء الصحيح من انذار و إخلاء للسكان.
وما حصل عند تفجير سد نوفا كاخوفكا بأوكرانيا خير دليل، ورغم أنها دولة في حالة حرب، فبعد انهيار السد غمرت مياهه 80 قرية، و لكن لم يحصل ما حصل في ليبيا لأن هناك إنذار و إخلاء و تواجد للسلطات المحلية.
لا يمكن أن نعود بعقارب الساعة إلى الوراء و نتجنب ما حدث من قتل و دمار كبيرين وهذا قدر الله.
الآن لنفكر في عشرات الآلاف من النازحين و المهجرين بلا مأوى و لا مال ولا مركوب، حيث فقد الناس بيوتهم و مركباتهم و مواشيهم و مصادر رزقهم و مدخراتهم.
تأكدوا أن مشاكلهم لن تُحل ولن يحصلوا على شيء بسبب عدم وجود دولة في ليبيا، فحتى الإغاثة و الإنقاذ كانتا بمجهود شعبي محلي غير مسبوق في تاريخنا، إضافة إلى جهود الفرق الأجنبية.
فأين مبلغ الـ 2 مليار الذي رصد منذ عامين لدرنة لإعمارها نتيجة الخراب الذي طالها بسبب الحروب المتعاقبة؟.
إن الجهات التي فشلت في انفاق مبلغ 2 مليار الذي وعدت به من سنتين في إعمار درنة نتيجة تدميرها، لن تستطيع أن تصرف العشرة مليارات التي وعدت بها المدينة الآن.
الشعب الليبي يدفع ثمن صراع عبثي طفولي بين حكومات متناثرة هنا و هناك.. حكومات وهمية صورية.. لا هَم لها إلا الكسب الحرام، حكومات تفتخر بالهبات و الصدقات من دول العالم، في حين أننا دولة تصرف مئات الملايين من الدولارات سنوياً على إيجار الطائرات الخاصة و الفنادق الفارهة و مرتبات المرتزقة شرقاً و غرباً.
انظروا إلى المغرب و تركيا و عمان، فالمغرب جابهت الزلزال بأن أقر عدة تعويضات ستشمل عمليات إعادة الإسكان لعدد 50 ألف أسرة متضررة من آثاره، والتي ستستفيد ايضاً من منح بقيمة 3 آلاف دولار بحسب ما أعلن عنه يوم الخميس قبل الماضي.
وسيخصص كذلك دعم مالي بقيمة 14 ألف دولار يمنح للأسر التي هُدمت منازلها تماماً بسبب الزلزال، بينما ستستفيد الأسر التي هُدمت منازلها جزئياً من دعم في حدود 8 آلاف دولار.
وأنظروا إلى تركيا ماذا فعلت فى إعادة إعمار كل ما دمره الزلزال و كيف عوضت السلطات السكان المتضررين.
أما عمان ,فقد ضربها إعصار أقوى بعدة مرات من العاصفة الذي ضربت درنة ولم يكن الأول فقد سبقته أربعة أعاصير مدمرة، ومع ذلك فإنها قامت بكل شيء ذاتياً من تعويضات و إعادة بناء و رفضت استلام دولار واحد من المساعدات الخارجية.
فليعتبر المسؤولون اليوم الذين يتباهون بهبات الأغطية و الحليب و الغذاء، بكلام القائد عام 2011 حيث قال رغم الحصار الخانق و رغم القصف ان ليبيا لا تقبل أن تمد يدها للصدقات ونحن دولة قادرة على إغاثة أهلها.
أؤكد لكم أنه لن يتم حل مشكلة النازحين و لن تُعمر درنة بل لن يعاد بناء سدها الذي بُني منذ 50 سنة، فهي مثلها مثل بنغازي و سرت و تاورغاء و جنوب طرابلس، دُمرت ولم يتم إعادة إعمارها الى الآن رغم الوعود الزائفة.
ولنا في جائحة كورونا خير مثال حيث أن ليبيا الدولة الغنية دخلت في برنامج (كوفاكس) الخاص بالدول الفقيرة المحتاجة للحصول على معونات لمواجهة كورونا، وكل التطعيمات التي وصلت لليبيا كانت عن طريق مِنح من دول خارجية.
وللأسف و بشهادة الدول المانحة، جُل هذه المساعدات تم بيعها في السوق السوداء و جزء منها لازال إلى الآن في المخازن نتيجة لسوء الإدارة.
و هذا هو السبب الذي جعل الدول مترددة في دفع أموال لأي جهة ليبية نتيجة لتجربتهم المريرة في جائحة كورونا.
مثلما دمر السيل العرم مدينة درنة، فإنه دمر أيضاً التسميات الجهوية البغيضة (برقة، فزان، طرابلس، و عرب الشرق و عرب الغرب)، و طَمَرَ الأحقاد و الفتنة و الإنشقاق.
فكما يقال، (ما من مِحنةٍ إلا وفيها مِنحة)، هذا السيل أعاد لليبيا وحدتها و أعادنا نحن الليبيين كما كنا قبل عام 2011 أخوة متحابين، "شعب واحد، مصير واحد، مصابنا واحد، و جرحنا واحد".
وأظهرت درنة للعالم أننا شعب متصالح مع نفسه، وجسدت مشروع المصالحة في أجمل صورة.
الآن نريد فزعة أخرى بعد فزعة درنة الجريحة...
فزعة لأمنا الكبيرة ليبيا
لنبني السد الأكبر، ليعود أقوى مما كان...
لنعيد بناء ليبيا
فذو القرنين آتاه الله كل أسباب القوة، و لكن عند بناء سده الكبير طلب من الناس الإعانة ليبني سداً بينهم و بين الشر.
"قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)"
فأعينوا أنفسكم بأنفسكم و لا تنتظروا العون من أحد غير التوكل على الله و البدء في بناء بلادنا، لتعود دولة عزيزة كريمة قوية لها مكانها بين الأمم.
و السلام على المُهتدين
سيف الإسلام معمر القذافي
22/9/2023