تقوم الديمقراطيات التمثيلية، كما تصورها الغربيون ومارسوها، على النظام الحزبي. ويقوم النظام الحزبي ذاته على مجموعة من القيم والأفكار تجمع نخبة تعتقد أنها عن طريقها، إذا وصلت إلى السلطة، تخدم وطنها بطريقة تحسبها مثلى... يتطلب ذلك إيجاد مناخ سياسي يضمن تناوبا سلميا على السلطة يفرضه الناخب باختياره المشروع السياسي الأفضل لإدارة الشأن العام خلال فترة زمنية محددة. تلكم هي الحالة الطبيعية لنظام ديمقراطي طبيعي.
لكن أنظمتنا "الديمقراطية" لم تكن وليدة حالة طبيعية، وإنما فرضت في الغالب، من طرف "شركائنا في التنمية"، مثل أشياء أخرى كثيرة يفرضونها علينا لمصلحتنا، زعموا. نتج عن ذلك أن "أحزابنا" لم تعتمد، في نشأتها، على القيم والأفكار وإنما صممت لتكون أدوات لجمع أصوات الناخبين بطرق شتى. ومن ثم لم تحظ البرامج السياسية بالعناية اللازمة لأن الناخب في الغالب أمي تتحكم فيه الولاءات العرقية والقبلية والجهوية. ولأننا في نظام رئاسي، قاس الناس رئيس الحزب على رئيس الدولة، فاستمدت الأحزاب أهميتها من رؤسائها الذين يناضلون من أجل التناوب السلمي على السلطة، كما تقتضيه الديمقراطية، لكنهم لا يقبلون التناوب على رئاسة الحزب الذي ينسب لهم مباشرة، فلا يعرف إلا بهم.
في الحالة الموريتانية لم يفلح أي حزب معارض في الوصول إلى السلطة، ولم يقبل أي زعيم حزبي التخلي عن زعامة الحزب باستثناء حزب تواصل الذي أُخرج جميل من زعامته، فخرج من الحزب ليجمع حوله شتات الأحزاب، والنقابات، والحركات الأيديولوجية ليعيد إنتاج "كتلة غرامشي التاريخية" في فراغ فكري، ومحْل تنظيمي.
عشرات السنين وزعيم الحزب يراكم الفشل على الفشل. لم تحتمل "الذئاب" الوضع طويلا فنزحت فرادى إلى حيث الطرائد من المناصب والمكاسب. ثم تلت ذلك موجة أخرى حلت فيها أحزاب نفسها لتناضل في صفوف حزب أنشأت لتعارضه، وانقسمت أخرى بين الإثنية والقبيلة.
كانت التهدئة السياسية، كما تصورها مطلقها، محاولة لإيجاد مناخ سياسي يسمح للمعارضة بالنهوض بدورها في جو ديمقراطي يطبعه انفتاح الأغلبية السياسية على الأقلية لإدارة الشأن الوطني، كل من موقعه. غير أن المعارضة، أغلبها، فهمت التهدئة فهما لا ينسجم والمساطر الديمقراطية. فهمت التهدئة بمعناها الحرفي فوضعت نفسها على الصامت، متخلية عن دور المراقب الناقد، واعتقدت أن لذلك ثمنا ينبغي أن يدفع. فأضرت بالنظام من حيث أرادت أن تنفعه، حين أخلت الفضاء العمومي لأفراد نهضوا بدور المراقب الناقد بلا ضوابط قيمية أو فكرية.
لقد فهم الناخب أن المعارضة تخلت عن دورها، فتخلى عنها لتتعمق أزمة قادتها التاريخيين. تجلت تلك الأزمة بشكل مأساوي في تحارب أهل التكتل حول الزعيم التاريخي للحزب. حسمت الحرب يوم أمس ببيان استخدم عبارة، في حق مناضلين من خيرة كوادر الحزب، لا تليق بالزعيم، ولا بالصورة التي في أذهان الموريتانيين عن حزب تكتل القوى الديمقراطية: "يتم طرد الأعضاء التالية أسماؤهم من الحزب:" كان بالإمكان استخدام عبارة أكثر لطفا، وأليق بالطرفين؛ تجميد العضوية، إقالة، فصل... وكان بالإمكان الاحتفاظ للمفصولين ببقية احترام بوصفهم بصفاتهم الحقيقية "كوادر قيادية"، وليسوا مجرد أعضاء.
إن خصومة سياسية تقضي، في لحظة، على روابط إنسانية نسجت خلال عشرات السنين تظهر للأسف الشديد، حدود فهمنا للممارسة السياسية، وللنشاط الحزبي. فلا يحق للرفاق "طرد" رفاقهم لأن ذلك يزري بالجميع، ويلصق وصمة قبيحة بتاريخ حزب له مكانته في الحياة السياسية الوطنية. ومن لا يهتم بالتاريخ لا يحق له ممارسة السياسة.
سيكتشف الزعيم أحمد ولد داداه أن الذين دفعوه إلى توقيع ذلك البيان، لعله لم يقرأه، لا يهتمون لما سيقوله عنه التاريخ: "أحمد يطرد أصحابه". وستدرك المعارضة أنها وضعتنا في الأغلبية في ورطة سياسية، عسانا نجد لها حلا في المأمورية الجديدة، حين أفسحت المجال لتواصل لينفرد بمساحة المعارضة. فأصبحنا بين مطرقة إخوان يعارضوننا من الباطن، و"جمع" LGBT سياسي يدعمنا بشكل مختلف...
د. اسحاق الكنتي