عندما تُعلن هيئة البث الإسرائيليّة اليوم أنّ الجيش يقترب من نهاية المرحلة الأولى للحرب البريّة في لبنان بعد شهرين من بدئها، وتُلمّح بذلك إلى بدءِ انسحابٍ وشيك، ويُطلق مُقاتلو “حزب الله” 80 صاروخًا مُنذ فجر اليوم فقط على أهدافٍ عسكريّةٍ استراتيجيّةٍ في الجليل والمُدُن الفِلسطينيّة المُحتلّة في غربه، فهذا يعكس من الوهلةِ الأُولى أمرين أساسيين”:
الأوّل: الاعتراف رسميًّا بالهزيمةِ على الجبهة اللبنانيّة بسبب هجمات المُقاومة الإسلاميّة النوعيّة، سواءً على طُول جبهة الحُدود مع فِلسطين المُحتلّة، أو في العُمُق الإسرائيلي ومُستوطناته ومُدُنه في الشّمال.
الثاني: تفاقم الخلاف بين المؤسّسة العسكريّة وحُكومة بنيامين نتنياهو بسبب تصاعد الخسائر البشريّة والأمنيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، وإصرار هذه المؤسّسة على وقف الحرب فورًا والبحث عن حُلولٍ سياسيّةٍ وهذا ما لا يُريده نتنياهو لأنّ وقف الحرب في لبنان وغزة يعني نهايته.
***
القيادة العسكريّة الجديدة لحزب الله كثّفت في الأيّام القليلة الماضية عمليّاتها العسكريّة ضدّ الاحتلال، وحقّقت إنجازات عظيمة في الجبَهات جميعًا، وجاء هذا التّصعيد تزامُنًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة وتعهّد السيّد علي خامنئي المُرشد الايراني الأعلى اليوم السبت بالرّد المُؤلم على الهجمات التي تشنّها “إسرائيل” وحليفتها أمريكا ضدّ إيران أو الجماعات التي تدعمها في المِنطقة وتنتمي إلى محور المُقاومة، والمُتوقّع أنْ يكون الرّد بعد هذه الانتخابات.
إذا أجرينا “جردة حساب” سريعة للخسائر العسكريّة الإسرائيليّة مُنذ بدء الهُجوم البرّي قبل شهر استنادًا إلى أحدث بيانات غرفة عمليّات المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة (حزب الله) فيُمكن تلخيصها كالتّالي:
أوّلًا: وصلت الخسائر البشريّة في صُفوف الجيش الإسرائيلي وقوّاته الأمنيّة إلى أكثر من مئة قتيل و900 جريح مُعظم إصابتهم خطيرة ومُعقّدة.
ثانيًا: تدمير ما يقرب من 50 دبّابة ميركافا وعدد من ناقلات الجُنود والجرّافات.
ثالثًا: قصف منزل بنيامين نتنياهو وإصابة غُرفة نومه في قيساريا، والهُجوم على قاعدة غولاني في بنيامينا وقتل وإصابة أكثر من 75 من ضبّاطها وجُنودها، وقصف قاعدة غليلوت مقر الموساد ووحدة استخبارات 8200 العسكريّة قُرب تل أبيب.
رابعًا: إطلاق 170 مُسيّرة “انقضاضيّة” وصلت مُعظمها إلى أهدافها في العُمُق الإسرائيلي بعد فشل منظومات الدّفاع الجويّة في اعتِراضها أو إسقاطها.
خامسًا: فشل القوّات الإسرائيليّة في اقتحام الحُدود اللبنانيّة، والسّيطرة على قُرى وبلدات على طُولها، وخاصَّةً بلدة “الخيام” التي تحوّلت إلى مقبرةٍ مفتوحةٍ للقوّات الإسرائيليّة بسبب صُمود وجاهزيّة المُقاومة في الدّفاع عنها وصد أي مُحاولة لدُخولها.
سادسًا: تطوير المُقاومة لمنسوبِ أهدافها ونوعيّتها ولعلّ توجيه رشقة صواريخ يوم الخميس إلى أهدافٍ اقتصاديّةٍ ومقتل سبعة “مدنيين” بينهم 4 عمّال أجانب (تايلنديين) هو أحد الأمثلة في هذا الصّدد.
مُقاتلو “حزب الله” وعمليّاتهم العسكريّة الدّقيقة وصُمودهم البطوليّ، أفشلوا كُل الخطط العسكريّة لجنرالات الجيش الإسرائيلي، وبثّوا الرّعب في أوساط الرّأي العام، ولعلّ إطلاق صافرات الإنذار اليوم فقط في أكثر من 25 مِنطقة في الشّمال المُحتل من بينها عكا، وخليج حيفا، وتل أبيب، ومناطق مُتعدّدة في الجليل ومُستوطناته فهذا تطوّرٌ غير مسبوق على الجبهة اللبنانيّة، وربّما في الجبَهات الأُخرى أيضًا، ويُؤكّد على أنّ الحزب ومُقاتليه وجنرالاته الشابّة، باتوا في وضعٍ يُؤهّلهم إطلاق مِئات الصّواريخ وعشَرات المُسيّرات الانقضاضيّة في أيّ وقتٍ وفي أيّ مكانٍ يشاؤون.
اللّافت أنّ قيادة حزب الله ومُؤسّساته العسكريّة والسياسيّة التي تجاوزت أزمة “البيجرات” والاغتيالات بسُرعة، وملأت كُل الفراغات القياديّة بالشّباب جنبًا إلى جنب مع المُخضرمين، لم تتنازل عن ملّيميتر واحد من إرث سيّد الشّهداء حسن نصر الله، والتزمت بالكامل بتنفيذ وصيّته التي لخّصها في خِطابه الأخير، وخاصَّةً التمسّك بوحدة السّاحات، وعدم التخلّي مُطلقًا عن المُقاومة في قطاع غزة، وهي التّوصية التي سرّعت باستِشهاده، ولعلّ وفاء واحتِرام الشيخ نعيم قاسم لهذا الإرث، وتأكيد التمسّك به، والحِفاظ عليه، ورفضه لأيّ فصلٍ بين لبنان وغزة استجابةً لمطالب الطّابور اللّبناني الخامس، هو الذي دفع الجنرال يوآف غالانت وزير الحرب الإسرائيلي إلى تهديده بالاغتيال والقول بأنّه لن يُعمّر طويلًا في منصبه.
***
نختم بالقول إنّه عندما ينشر الجيش الإسرائيلي جُنوده على طُول الحُدود اللبنانيّة لمُراقبة ورصد المُسيّرات التّابعة للمُقاومة للإبلاغ عن اختراقها لهذه الحُدود بالعين المُجرّدة تأكيد لفشل كُل أجهزة الرّصد الإلكترونيّة الحربيّة المُتطوّرة، وعدم القُدرة على إسقاطها، وعندما “تنعق” صافرات الإنذار ثلاث مرّات يوميًّا إن لم يكن أكثر في مدينة حيفا فقط، وتصل الصّواريخ والمُسيّرات إلى مصنعٍ ضخم في شِمال نهاريا، ويتم تفريغ مقر الموساد ووحدة 8200 الاستخباريّة العسكريّة من الجواسيس العاملين فيها، ولُجوئهم إلى الملاجئ رُعبًا من صواريخ المُقاومة، فهذا يعني اقتراب النّهاية لدولة الاحتلال، وضُوء أخضر لتسريع هُروب الآلاف من مُستوطنيها إلى ملاذاتٍ آمنة في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا، أمّا اليهود الشرقيين فليذهبوا إلى الجحيم من وجهةِ نظر قيادتهم المَهزومة.
كُلّ الشُّكر للمُقاومة الإسلاميّة في لبنان التي غيّرت، وستُغيّر الكثير من المُعادلات وقواعد الاشتباك وهزمت العُدوان الإسرائيلي، ولقّنت جيشه دُروسًا في الشّجاعة والبُطولة انتصارًا وتضامُنًا وإسنادًا للأهل في قطاع غزة، والشُّكر موصولٌ أيضًا للمُقاومة اليمنيّة والعِراقيّة.
الكيان الإجرامي العُنصري يَلفُظُ أنفاسه الأخيرة، وحرب الإبادة التي يشنّها حاليًّا في قطاع غزة ولبنان ليست دليل قوّة وإنّما التخبّط وزفرات احتضار ما قبل الموت، وما بعد الانتخابات الأمريكيّة يوم الثلاثاء المُقبل سيكون مُختلفًا عن ما كانَ قبلها، وأيًّا كانت النّتائج.. والأيّام بيننا.
عبد الباري عطوان