إذا كانَ البيان الذي صدر عن المؤسّسة العسكريّة المِصريّة وتضمّن نفيًا جازمًا بتقديمِ أيّ مُساعدة عسكريّة للعمليّات الحربيّة الإسرائيليّة، في رَدٍّ على تأكيداتٍ صدرت عن مُؤسّسات رصد لتحرّكات السّفن، تُوثّق دُخول سفينة “كاثرين” الألمانيّة التي ترفع علمًا بُرتغاليًّا، إلى ميناء الإسكندرية قبل بضعة أيّام وأثارت لغظًا قويًّا، وقيل إنّها تحمل 150 طنًّا من المتفجّرات لإيصالها إلى جيش الاحتلال، إذا كان هذا البيان قد حظي ببعض المِصداقيّة، فإنّ المِصداقيّة لم تُعمّر طويلًا، وعجّل البيان الذي صدر أمس عن هيئة قناة السويس بنسفها وخاصَّةً الفقرة التي وردت عن الهيئة وقالت فيها إنها “مُلتزمةٌ بالاتفاقيّات الدوليّة التي تكفل حُريّة المِلاحة البحريّة للسّفن العابرة للقناة، سواءً كانت حربيّةً أو تجاريّةً، دُونَ أيّ تمييزٍ لجنسيّتها تطبيقًا لاتفاقيّة القسطنطينيّة”، في إشارةٍ واضحةٍ إلى السّفن الإسرائيليّة.
فمن يسمح للسّفن الحربيّة الإسرائيليّة، وليس التجاريّة فقط، بالمُرور عبر قناة السويس وفي هذا الوقت الذي تشنّ فيه حرب إبادة على غزة ولبنان، لا نعتقد أنه سيمنع سفينة “كاثرين” من دُخول ميناء الإسكندريّة، أو تفريغ أو تحميل، أسلحة ومتفجّرات في طريقها إلى دولة الاحتلال يُمكن أن تستخدمها في حرب الإبادة المُتصاعدة حاليًّا في قطاع غزة والجنوب اللبناني.
***
السّفينة “كاثرين” دخلت ميناء الإسكندريّة يوم الاثنين 28 تشرين أوّل (أكتوبر) الماضي، وغادرته يوم 31 من الشّهر نفسه، مثلما قالت مؤسّسة “مارينا ترافيك” التي تُوثّق تحرّكات السّفن في جميع أنحاء العالم، ورفضت دول إفريقيّة مِثل نيجيريا، وأوروبيّة مِثل سلوفينيا والجبل الأسود رسو هذه السّفينة في موانئها تجاوبًا مع طلبات منظّمة العفو الدوليّة.
لا نعرف كيف تتمسّك السّلطات المِصريّة باتفاقيّة “القسطنطينيّة” التي صدرت عام 1888 وهي التي لم تُوقّع عليها، وكانت في حينها خاضعةً للنّفوذ البريطاني، وصدرت قبل وجود القوانين الدوليّة، وعُصبة الأمم ومنظّمة الأمم المتحدة، وعندما كان مُعظم العالم الثّالث خاضعًا تحت الاستعمار الأوروبي، ولا تلتزم باتّفاقيّات ومُعاهدات الدّفاع العربيّ المُشترك، والإرثين العربيّ والإسلاميّ في نُصرة المظلوم، فلا حياد تُجاه ما يجري في غزة ولبنان من مجازرٍ وإبادة.
فإذا كانت اتفاقيّة القسطنطينيّة مُلزِمَةً للدّول المُوقّعة عليها، فلماذا لم تلتزم بها دولة مِثل إسبانيا التي كانت من بين المُوقّعين عليها، ورفضت رسو أي من السّفن المُحمّلة بأسلحةٍ وكانت في طريقها إلى دولة الاحتلال قبل شهرين تقريبًا، وأغلقت كُل مِياهها الإقليميّة في وجهها؟
ربّما يُفيد التّذكير بأربعة أمور أساسيّة لا يُمكن تجاهلها في هذه العُجالة:
الأوّل: أنّ مِصر أغلقت عام 1967 قناة السويس، ومضيقيّ تيران وصنافير في خليج العقبة في وجه السّفن الإسرائيليّة مدنيّة كانت أو عسكريّة، ولم نسمع حينها باتّفاقيّة القسطنطينيّة هذه، فالكرامة الوطنيّة المِصريّة فوق كُلّ المُعاهدات.
الثاني: أنّ اليمن المُحاصَر المُجوّع أغلق مضيق باب المندب والبحرين العربي والأحمر، في وجه ليس السفن الحربيّة والتجاريّة الإسرائيليّة فقط، (85 بالمئة من التّجارة الإسرائيليّة إلى آسيا تمرّ عبره) وإنّما أيضًا أي سفن تتعاون مع دولة الاحتلال وتحمل بضائع إليها حتّى لو كانت أمريكيّة أو أوروبيّة.
الثالث: دولة الاحتلال الإسرائيلي لم ولن تحترم أيّ اتّفاقاتٍ أو مُعاهداتٍ دوليّة بما في ذلك اتّفاقات كامب ديفيد التي انتهكتها باحتلالها محور صلاح الدين (فيلادلفيا) ومعبر رفح، وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما قتلت العديد من الجُنود المِصريين كانوا في بُرجِ مُراقبةٍ مُجاور، استمرّت القاهرة في استقبال المسؤولين العسكريين الذين كانوا خلف هذه التّجاوزات.
الرابع: ألَا تُوجد اتّفاقات وقوانين دوليّة تُجرّم أي حرب إبادة، والتّطهير العِرقي، وتحظر فرض أيّ حصارٍ تجويعيٍّ، وقتل الأطفال مثلما هو حادث حاليًّا في قطاع غزة مُنذ 13 شهرًا، وهو القطاع الذي كان تحت الإدارة والمسؤوليّة المِصريّة عندما احتلّه الجيش الإسرائيلي عام 1967؟
التمسّك بالاتّفاقيّات والمُعاهدات الدوليّة طريقٌ من اتّجاهين مثلما هو مُتعارفٌ عليه دوليًّا وأخلاقيًّا، ولكن يبدو أنّ القيادة المِصريّة لا ترى الأمر كذلك، ويتّضح ذلك من خلال تمسّكها باتّفاقات كامب ديفيد رُغم اعتِرافها رسميًّا بانتهاكِ الجيش الإسرائيلي لها، والتّطاول من قِبَل مسؤولين إسرائيليين على هذه القيادة والكرامة المِصريّة مثلما فعل بنيامين نتنياهو وبعض وزرائه أكثر من مرّة.
القيادة المِصريّة يجب أن تستغل فرصة هذه الانتهاكات وتُقدم على فكّ ارتباطها بهذه الاتّفاقات المُهينة التي لم تُحقّق الرّخاء لمِصر مثلما كان يأمل ويتوقّع مُوقّعوها، بل أغرقت البلاد في الدّيون والفقر، وتراجع ريادتها وقيادتها ومكانتها ليس في إفريقيا والشّرق الأوسط فقط وإنّما في العالمِ بأسْرِه.
***
قناة السويس يجب أن تُغلَق في وجهِ أيّ سفن حربيّة أو تجاريّة إسرائيليّة، انتصارًا وثأرًا لأكثر من 150 ألف شهيد وجريح عربي مُسلم في قطاع غزة وجنوب لبنان، يُدافعون عن كرامة الأمّة، وهيبتها، وعقيدتها، بما في ذلك مِصر وشعبها الذي كان سبّاقًا في نصرِ قضايا الأُمّتين العربيّة والإسلاميّة.
مِنطقتنا والعالم الإسلاميّ كلّه على أبوابِ حربٍ ربّما تكون مصيريّة وقد تُعيد صياغة المِنطقة والعالم بأسْرِه، والكيان الصّهيوني في حالةِ انهيارٍ وفقد هيبته وأمنه واستقراره بفضل عمليّات المُقاومة وصواريخها ومُسيّراتها وعمليّاتها البُطوليّة التي تنطلق حاليًّا من سبع جبهات، ولا نتمنّى أنْ تَحدُث عمليّة التغيير هذه، وكُل الانتِصارات الحاليّة والقادمة، ومِصر التي نُحبّها، وإرثها التاريخيّ المُشرّف في الخندق الخطأ.
ختامًا نُناشد أهلنا في مِصر العظيمة بأنّ الكيْل قد طفح، وجرى اختراق كُلّ الخُطوط الحمراء من قِبَل العدو، وحِيادُكم في هذه المرحلة التاريخيّة لا يتناسب مع مكانتكم وإرثكم وباتَ يُعطي نتائج عكسيّة، وباتَ سيف القطع قريبًا من أعناقِ الجميع.