لقد تابعت الحوار الماتع والذي تلقاه الجمهور بالترحاب بين مجموعة من الصحفيين حول قضايا عديدة من أهمها صفقات وردت فيها أسماء لأشخاص؛ كان ينظر إليهم على أنهم بعيدون كل البعد عن ممارسة أي نشاط ربحي خصوصا في المجالات المذكورة والمتعلقة ببناء وتوريد وتجهيز المخابر الجنائية للشرطة.
الموضوع الذي فتح شهية النقاش والتداول لدى الكثيرين أثار في نفسي جملة من الإشكالات والتأويلات التي أردت أن أشاركها الآن مع الرأي العام تنويرا للمهتمين وإسهاما في إلقاء الضوء على بعض الجوانب المعتمة من قطاع ظلم منتسبوه كثيرا وأصبح فضاء موبؤا يجرب فيه كل فاشل نطاسته.
" هل يمكن لمسيرة غنية بالكتابة الصحفية الجادة و تزيد على الثلاثين سنة أن تقود وتؤسس لممارسة تجارية عارية؛ من كل قيمة علمية دون أن تفقد ألقها أو مهنيتها وتكون نشازا ضمن ما تعارفت عليه البشرية في هذا المجال؟،".
هذا التساؤل المشروع الذي أطلقه المحاور البارع أقريني امينوه؛ سيكون بالنسبة لنا النقطة التي من خلالها يمكننا أن نفكك اغلب عناصر هذه الإشكالية؛ فأقول نعم كما قال المحاوران الآخران حنفي وأحمد عندما أكدا ثراحة أن الصحافة ليست سوى نسج علاقات قوى وإدارة تلك العلاقات على نحو يحقق كل أهداف الصحفي ومنافعه المادية.
لكن اوضح و أزيد فأحدد أن علاقات القوى هذه وعلى مدى مسيرة الصحافة المستقلة والرسمية التي عاصرتها في بلدنا ومنذ بداية التسعينات انبنى أغلبها على الربحية والنفعية الذاتية؛ فانحلت في الأخير لأدوات عارية لجمع المال سواء من خلال تكفف الناس بصورة فجة سمجة ووقحة أو من خلال لبوس التغطيات والإشتراكات والإمتيازات أوحتي من خلال الحضور في الصفقات العمومية سمسرة لتجار معروفين لقاء عمولات معلومة أو إستحواذا علي الصفقات ذاتها من خلال شركات وهمية؛ أو فعلية بأسماء مستعارة؛ او بأسماء حقيقية فكان أن انتج القطاع برجوازية هامشية تبرر الفساد وتستثمر فيه ناشرة سجف التلميع والتبرير حوله.ومع تتابع وتكرس هذه الظاهرة وبروزها البروز النهائي فقدت الصحافة عندنا كليا تأثيرها وجمهورها وأصبح الصحفي يطلق على كل الطفيليات المتحورة التي أخرجت الزيدنة بمختلف نسخها واللوبيات الشللية بمختلف تلوناتها.(أصحاب رجل الأعمال فلان أو الجنرال فلان او لوبي المدير فلان ...).
لاغرو إذن ولا غرابة أن يكون الصحفي عندنا وسيطا وحتي ممثلا تجاريا يسهل مهام كل من يريد التعامل مع الدولة؛ فهو من أصحاب الوزير وهو قادر على إقناعه واضغط في مختلف الدوائر حتي يسير الملف كما يرام ومن المؤكد أنه لن يفعل ذلك مجانا إنه يتقصد المنفعة ويتوسل كل الوسائل لتحقيق الإنتفاع؛ إنه غالبا صاحب مكتب خبرة يسدي خدمة معوضة دون أن يثير ذلك أية شكوك إنه يخدم البلد ويسعى في تطويره من خلال توفير معامل جنائية هو في امس الحاجة إليها.
الغريب فقط والمستغرب بالنسبة للبعض هو محاولة فصل هذا الفعل عن الصحافة التي بالنسبة لهم بعيدة عن هذا المجال ولهولاء أقول إن ثمة ترابطا كبيرا بين الممارستين ترابطا أقوى من الذي يجمع بين اللذة والألم إنه ت ترابط الأصل بالفرع صحافتنا تنتج علاقات تجارية خدمية تنتج متسولين كما تصنع تجارا وأثرياء ورجال أعمال هذا هو الواقع الذي نعيشه والذي علينا ان نعترف به .
قد يكون هذا مختلفا عن ما درجت عليه الصحافة عبر العالم وقد يكون هذا غير ما نتمناه لكن كل ذلك يدخل في احكام القيمة أي ما يجب أن يكون وذلك مختلف قطعا عن ما هو كائن.
أخيرا لابد من الإشارة إلى أن وكالة الأخبار التي أثارت الموضوع ورغم محوريتها في المشهد الإعلامي الوطني لم تقم بعمل إستقصائي تمخض عن هذا السبق وإنما اعطيت التقرير وسرب لها ضمن عملية تصفية حسابات معروفة ومتكررة بين أذرع النظام التي لا يتورع أغلبها عن الضرب تحت الحزام بغض النظر الإرتدادات المحتملة لذلك الضرب كما أنها أعني الوكالة ليست إستثناء ضمن حقلها فليست بالنقاء الذي يروج له كما أن الصحفي الذي شمله التحقيق ليس بالسوء الذي صور به فقد كشفت او كشف لمؤسسته "القلم" ملفات كثيرة وعديدة وعن طريقها صنع مصداقيته التي خولته لعب هذا الدور. أدوارا أخرى أكثر خطورة ومحورية في الشأن العام خصوصا أيام العصر الذهبي للصحافة الورقية المستقلة؛ ومن الوارد جدا أن ينقلب السحر على الساحر فتكون الأخبار هي الضحية القادمة عندما يقرر جناح آخر من المحتمل أن تكون لها علاقة بها تقليم أظافرها أوالإنتقام من احد الأعداء مما قد تكون له إرتدادات يمكن أن تعصف بها وبغيرها.
لقد علمتنا التجربة أن اغلب النخب لا تتحرك ولا تتكلم ولا تسكت الا سعيا أو تحقيقا لمكسب مادي سواء أكان ذلك المكسب وظيفة او صفقة أو إمتيازا من أي نوع ويكفي النظر لخريطة التموضعات السابقةواللاحقة لكل من يتصدرون المشهد لنتأكد من ذلك وعليه "اللا بالشور اعلي الصحافة والصحفيين" فهم من غزية وغزية باعت كرامتها ليهود خيبر.
نحن بلد النخب المغشوشة التي تبيع كل شيء وتتربح من أي شيء وتلبس لكل قيصر عمامة وعليه ما فيه "حدى أحسن من حدى".
عبد الفتاح ولد باب