ما هي أفضل طريقة لسلب “طوفان الأقصى” بريقه، وتفريغه من زخمه ومضمونه والحُجّة التي ألزم بها أعناق الجميع، وتقويض الإجماع الذي حظي به وتساميه على الانقسامات الفصائليّة والطائفيّة والقُطريّة والعرقيّة، وإعطاء الأنظمة العربية ذريعة لتبرير تقاعسها وتخاذلها وتواطؤها إزاءه، وإعطاء الناس الذين “ألفوا” و”اعتادوا” و”ملّوا” ذريعة لإشاحة وجوههم و”إراحة” ضمائرهم ومواصلة نمط عيشهم الذين يستعبدهم ويدمنونه في آن واحد؟
الحلّ ببساطة هو منح الناس طوفاناً “تعويضيّاً” آخر يستعيضون به عن الأول، ويلتهون به، ويحتفون به ولو كذباً على النفس ونفاقاً لها، ويمنحهم من ناحية إحساساً زائفاً بالنصر والإنجاز، ويمنحهم من الناحية الأخرى المبرّر لإطلاق العنان لعنصريّاتهم وأحقادهم التي أُرهقوا وهم يحاولون كبتها وترويضها وتهذيبها: “طوفان الأمويّ”!
وما هي أفضل طريقة للفت أنظار الناس عن المشروع الصهيو – أمريكيّ الرامي إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يكفل استمرار الهيمنة الاستعماريّة الغربيّة لعقود قادمة، وقطع الطريق أمام أي قوى إقليمية ودولية صاعدة تسعى إلى موازنة الخلل الحادّ من أجل إرساء نظام عالميّ متعدد الأقطاب، واستمرار السلب الممنهج لمقوّمات شعوب المنطقة ومواردها وثرواتها وفوائضها، ووأد أي بوادر ولو جنينيّة لوحدة هذه الشعوب ونهوضها واستقلالها سواء على أساس وحدة الدين، أو وحدة الأصل، أو وحدة اللغة والثقافة، أو وحدة المصير، أو حتى وحدة المصالح بالمعنى الماديّ البحت لكلمة مصلحة بعيداً عن التبعيّة للآخرين ومصالحهم؟
الحلّ ببساطة هو توجيه الأنظار نحو مشروع آخر بديل، وإغراق الفضاء التواصليّ بالحديث عنه، وشيطنته، وجعله مادة لتفريغ مشاعر القهر والكبت والعجز تجاه حالة الاستلاب والهيمنة والاحتلال الفعليّة التي تعيشها شعوب المنطقة، ومرّة أخرى إعطاء الناس المبرّر لإطلاق العنان لعنصريّاتهم وأحقادهم الأثيرة على قلوبهم: “المشروع الإيرانيّ”!
وما هي أفضل طريقة للتعتيم على كلّ أنواع الموبقات والجرائم والإبادة والتعذيب التي يقترفها الكيان الصهيونيّ بشكل ممنهج ضد الشعب الفلسطينيّ في غزّة والضفة وداخل السجون (كنمط سائد ومتكرّر ومستمر في صميم حضارة الرجل الأبيض/ الحضارة الغربيّة)، وإعطاء ماكينة الإجرام الصهيونيّة الفرصة كاملة لإتمام “المهمّة” الموكولة إليها على مهلها ودون أن تؤرّق نفسها حتى بالتعامل مع الضغط واللغط الإعلاميّين؟
الحلّ ببساطة هو إغراق الناس بالقصص والمرويّات والسرديّات التي يُحاكي بعضها مخيال “ألف ليلة وليلة” حول أهوال وفظائع سجون النظام السوريّ المُسقَط، دون أن يجرؤ أحدهم على المطالبة ولو بمجرد التدقيق والتمحيص، وإخضاع دفق الأخبار والتقارير والفيديوهات والشهادات والإدراجات والمشاركات الغزير إلى الحدّ الأدنى المُتوقّع من مبادئ ومعايير العزو والدقة والنزاهة الصحفيّة، أو الأخذ بعين الاعتبار أسبقيّات في التزييف والاختلاق والفبركة صاحبت أحداث ما يُسمّى “الربيع العربيّ”، أو الأخذ بعين الاعتبار أنّنا في زمن ما يُسمّى “الذكاء الاصطناعيّ”، أو الأخذ بعين الاعتبار أنّ بعض الدول المتآمرة على النظام السوريّ تمتلك سجوناً تضاهي “سجون الأسد” وتتفوق عليها دون أن يجرؤ أحد على التطرّق إليها ولو تلميحاً، أو الأخذ بعين الاعتبار أنّ وسائل الإعلام العالميّة التي تتسابق اليوم لنقل أخبار جرائم الأسد هي نفسها وسائل الإعلام التي نقلت بالأمس أخبار قيام رجال المقاومة باغتصاب النساء ونحر الأطفال وبقر الحوامل وحرق الأحياء عند انطلاق معركة طوفان الأقصى المباركة في السابع من أكتوبر. وهي نفسها وسائل الإعلام التي كانت تتحدّث عن جرائم وإرهاب “أبو محمد الجولانيّ” وإخوانه سابقاً، وتتغنّى بمدنيّة وانفتاح “أحمد الشرع” وأعوانه حاليّاً!
القاسم المشترك بين “طوفان الأمويّ” و”المشروع الإيرانيّ” و”سجون الأسد” هو إزدواجيّة المعايير المقيتة لدى الأنظمة العربية و/أو سواد الشعوب العربيّة و/أو الغالبية العظمى من أصحاب ذلك النمط من التديّن الظاهريّ الطقوسيّ الذرائعيّ النفعيّ البرجماتيّ الذين يحتكرون لأنفسهم مسمّى “أهل السُنّة والجماعة” ويؤمنون بأنّهم وحدهم “الفرقة الناجية”!
فإذا كان “طوفان الأمويّ” يستحق كلّ هذا الاحتفاء والاحتفال والمساندة والدعم، فإنّ “طوفان الأقصى” يستحق عشرة أضعاف هذا الدعم، لا أن نتخندق إلى جانب العدو ضدّه، ونضيّق الحصار والخناق عليه، ونضرب على يد كلّ مَن يؤيده، ونسعى لتقويضه وتقويض جبهات الإسناد والمقاومة التي تناصره وترفده.
وإذا كان “المشروع الإيرانيّ”، والذي هو موجود في “عالم الخطاب” أكثر ممّا هو موجود فعليّاً على أرض الواقع، يستدعي كلّ هذا الاستنكار والاستنفار والبغض والعداوة والمحاربة.. فإنّ المشروع الصهيو – أمريكيّ الحقيقيّ والملموس والماثل على الأرض فعليّاً، والذي جزء منه المشروع التركيّ بحلّته الحالية، يستدعي عشرة أضعاف الاستنكار والاستنفار والبغض والعداوة والمحاربة!
وإذا كانت جرائم “سجون الأسد” في حال ثبتت جميعها تستحق تقويض الدولة السوريّة، وتدمير قدرات الجيش السوريّ، والسماح للكيان الصهيونيّ باغتصاب كامل الجولان وحوض اليرموك ومساحات واسعة من جنوب سوريا، والسماح لأمريكا بالاستمرار في احتلال شرق الفرات.. فإنّ جرائم الكيان الصهيوني تستدعي أن يتم إعلان الحرب عليه فوراً، وإعلان النفير العام، والسير جميعاً ولو على الأقدام من أجل تحرير كامل فلسطين من النهر إلى البحر!
ازدواجية معايير مقيتة لا يمكن تفسيرها إلا بأربعة احتمالات: الغباء الفائق، أو الوضاعة الفائقة، أو العمالة الفائقة، أو تركيبة قاتلة من الثلاثة معاً!
د. كمال ميرزا
كاتب من الأردن