إعلان

 

تابعنا على فيسبوك

مستقبل سوريا.. طبعة عربية لمصير الهنود الحمر؟!

أحد, 27/07/2025 - 16:36

إن من يتأمل الجرح السوري لا يراه مجرد نزف في خاصرة وطن، بل يراه خارطة للأوجاع، رسمت تضاريسها أيادٍ أميركية أطلت من وراء المحيطات، تلوّح برايات الحرية وتخفي وراءها خناجر التفتيت. فما يجري في سوريا ليس صراعًا عابرًا على سلطة أو كرسي في قصر يعتلي جبل قاسيون أو على من يسيطر على السويداء أو الساحل أو الجزيرة السورية ، بل هو فصل آخر من مسرحية كبرى، أبطالها جماعات متطرفة خرجت من رحم الظلمات، تؤدي أدوارًا كتبت نصوصها بعناية في دوائر استخباراتية بعيدة، فيما الراعي الأميركي يوجّه المسرح ويصفق، والعيون الإسرائيلية تتابع بوله لا يشبع.

الجماعات الإرهابية: الوظيفة القذرة وإنتاج إسلام مزيف

هذه الجماعات التي تصيح بالتكبير في ساحات الدم، ليست إلا دمى تحركها خيوط خفية. لم تولد هكذا صدفة، بل هي الثمرة المرّة لمشاريع أمنية غربية عكفت طويلًا على اختلاق «إسلام مزيف»، منزوع الروح التحررية، قائم على قراءات متطرفة ساذجة، وعداء عصابي ضد كل مختلف في المذهب أو الفكر تجد أصولها في الفرقة الوهابية — تلك الفرقة التي اجتزأت الإسلام من جذوره العميقة في العدالة ومقارعة المستكبرين، لتحوله إلى طقوس شكلية وأحكام متشددة تطبق على الناس واستقواء على الضعفاء، في حين تغض الطرف عن طغيان الطواغيت وتظللهم بفتاوى الطاعة.

لقد أدركت الدوائر الغربية أن أخطر ما في الإسلام هو جوهره المقاوم الذي وقف دائمًا في وجه المستعمرين الغزاة والمستكبرين، والذي تجسد حديثًا في حركات المقاومة التي تتصدى للاحتلال الإسرائيلي. ولذا سعوا إلى مواجهة هذا «الإسلام المقاوم» بإسلام آخر مشوه، يُنتج جماعات تكفر الأمة وتحلل دمها، لكنها تتعايش بسلام عجيب مع وجود القواعد الأميركية والأساطيل الغربية والكيان الصهيوني .

هكذا ترفع هذه الجماعات سيوفها لا لتفتح مدائن انتهكها الاحتلال، بل لتشق جسد الأمة إلى طوائف وقبائل متناحرة، حتى لا تقوم لها قائمة ولا تعود هناك راية تجتمع تحتها. تُستهلك سوريا في اقتتال داخلي، تستنزف طاقتها الحضارية، ويتعفن جرحها، لتغدو ساحة مستباحة، تُقطع أوصالها في وضح النهار. ولن تكتمل المسرحية إلا حين تُسند مهمة «محاربة الإرهاب» ذاته إلى القوى الغربية، فتكون قد أوجدت العدو ثم دخلت في حربه، لتظهر بصورة المخلص ولتبرر احتلالًا ناعمًا طويل الأمد يكرس خارطة لا تعود فيها سوريا كما كانت.

سوريا الغد فسيفساء الألم

في الأفق البعيد، يلوح طيف سوريا لا يشبهها. دولة مشوهة، بلا قلب نابض، بلا جيش يحمي تخومها، ولا بوصلة تتجه جنوبًا نحو فلسطين. هكذا يُراد لها أن تكون: فسيفساء من الطوائف والمذاهب المتجاورة ظاهريًا، المتنافرة جوهريًا، تتقاسم جراحها وتتبادل كراهية صامتة، حتى إذا ما ارتفعت راية مقاومة في مكان، خنقتها الطوائف الأخرى خوفًا أو حقدًا. وبينما هي كذلك، تتوسع "إسرائيل" مطمئنة في غفلة الخراب، فلا تهديد يلوح من جبهة دمشق التي كانت يومًا تصف نفسها بأنها «قلعة العروبة الأخيرة». مصير يشبه الهنود الحمر...

لكن بأيدٍ عربية وإذا أطللنا من شرفة التاريخ الأبعد، سنرى كيف تعيد أميركا إنتاج «السيناريو الهندي الأحمر» في بلاد العرب، ولكن بنسخة أشد فتكًا ودهاءً. فالإبادة هناك كانت على يد الغازي الأبيض، الذي ساق الشعوب الأصلية إلى مذابح جماعية ثم حشرها في محميات حزينة. أما هنا، فتُنفّذ الإبادة بيد العربي نفسه، يُوَجه بندقيته إلى صدر شقيقه، ينهش قلب بلده ظانًا أنه يحمي دينًا أو طائفة أو مذهبًا. هكذا يُراد للسوريين وللعرب أن يعيشوا مصير الهنود الحمر: شعوب محطمة، موزعة على كانتونات مذهبية، كل منها محمية صغيرة بائسة، لا مشروع لها إلا البقاء في هوامش التاريخ، فيما تُشاد في قلب الديار مشاريع الغزاة وأحلامهم.

والأدهى أن الخراب هنا «محلي الصنع» بامتياز، تسهر عليه مخابر غربية، لكن ينفذه أبناء الأرض بأموالهم وسلاحهم وفتاواهم. الجماعات الإرهابية وحركات المقاومة ولا يكتمل الدور الوظيفي لهذه الجماعات دون الإشارة إلى قطع شرايين التواصل بين قوى الممانعة والمقاومة. فما الذي يريده المخطط الأميركي الإسرائيلي أكثر من حزام ملتهب من الجماعات التكفيرية، يحاصر المقاومة في لبنان وفلسطين، ويحول سوريا من معبر إلى حاجز، ومن ظهير إلى ساحة طاردة لأي مشروع تحرري؟ إن هذا وحده كافٍ ليكشف أن هذه الجماعات لا تملك مشروعًا إلا تمزيق ما بقي من نسيج، ولا وظيفة لها إلا حماية الكيان الصهيوني بحواجز الدم والفتاوى.

ومضة ختام

يبقى الأمل معقودًا على يقظة الوعي: أن يدرك العرب ما يُراد لهم، فيتجاوزوا حروب الهويات الصغيرة، ويلتئموا من جديد في مشروع تحرري جامع، يواجه العدو الحقيقي بدل أن يقتتلوا في مسارح أعدها لهم بمهارة خصومهم. عندها فقط تسقط أقنعة الإرهاب الوظيفي، وتعود سوريا والعرب كما شاء لهم تاريخهم العريق: أحرارًا يكتبون حكايتهم بأيديهم لا بأقلام الغازي.

بقلم: منير الشامي

قناة العالم