
تشهد المنطقة العربية هذه الأيام حرب تصريحات شرسة بين القيادتين المصرية ودولة الاحتلال الإسرائيلي على أرضية “مؤامرة” تهجير أبناء قطاع غزة التي تشكل احد الأسباب الرئيسية لحرب الإبادة والتجويع والدمار في قطاع غزة، وكل الدلائل تؤكد ان مصر التي تعود بشكل متدرج الى دورها الأساسي كدولة مواجهة لا تتردد في التلويح بالخيار العسكري لكسب هذه الحرب بتأكيدها انها لن تكون شريكة في تصفية القضية الفلسطينية، وستظل حائط الصد الأول امام موضوع تهجير الفلسطينيين الذي تعتبره خطا أحمر، وبات من المؤكد انها لعبت الدور الرئيسي منذ اليوم الأول لإفشاله، وكانت الوحيدة التي تحدت الرئيس دونالد ترامب عراب هذا المشروع.
فعندما يتحدى السيد ضياء رشوان رئيس هيئة الاستعلامات التابعة للرئاسة المصرية، بنيامين نتنياهو بشكل علني، وقوي، ان يلغي اتفاق الغاز الموقع بين البلدين عام 2019 والممتد حتى عام 2024، بذريعة اتهام مصر بمخالفة اتفاق كامب ديفيد بنشر قوات ودبابات مصرية في سيناء، وقرب الحدود من غزة، فهذه “لغة” مصرية جديدة، تعكس تحولا غير مسبوق على الصعد كافة، ولا نستبعد ان تمهد لعدم استبعاد الخيار العسكري، وكان السيد رشوان واضحا عندما ذكّر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية يوم الجمعة بأن تل ابيب لا تبعد عن مصر الا 100 كيلومتر، وان ايلات على بعد امتار من الأراضي المصرية.
***
كان مفرحا بالنسبة الينا وللملايين من العرب والمسلمين مثلنا، ان نسمع تحدي السيد رشوان الذي بات المتحدث الرسمي باسم القادة والجيش المصري (لا يوجد وزير اعلام في الحكومة المصرية) واستخدام لغة طابعها المواجهة ويطالب نتنياهو بفتح جميع المعابر الستة لتمكين الفلسطينيين من العودة الى أراضيهم المحتلة منذ عام 1948 في الشمال والشرق، وهذا يعني ان ارض الشعب الفلسطيني ليست محصورة في الضفة والقطاع، وان حق العودة لأكثر من عشرة ملايين فلسطيني في الوطن والشتات حق مكفول ولا يمكن إغفاله او التخلي عنه.
هذه التصريحات المصرية فاجأت السلطات الإسرائيلية واربكتها، ونتنياهو على وجه الخصوص، الذي لم يحقق حتى الآن أيا من أهدافه في القضاء على المقاومة، او تهجير مليونين ونصف المليون من أبناء القطاع رغم اقتراب “غزوة” “طوفان الأقصى” القسامية المشرفة والاعجازية من اكمال عامها الثاني، التي اجتثت اركان المشروع الصهيوني من جذوره، ودمرت هيبة دولته العسكرية والاستخبارية، وفضحت كل جوانب دعاياته وأكاذيبه، وجعلت الكيان معزولا عن العالم، ومكروها باعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المتصهين الأكبر، وأهم داعم لحروب الإبادة التجويعية.
من سخريات القدر ان يتهم نتنياهو امس القيادة والجيش المصري بسجن أبناء القطاع بإغلاق معبر رفح، ويقول ان هذا الموقف المصري يتعارض مع حرية اختيار كل انسان لمكان سكنه، على اعتبار انه حق انساني أساسي في كل زمان وخاصة في أوقات الحرب، حسب قوله، ويؤكد انه سيفتح معبر رفح من الجانب “الغزاوي” المحتل، ولكن مصر ستغلقه فورا من جانبها، فهل الشعب الفلسطيني اختار الرحيل، ورقص ترحيبا بالريفيرا التي يعده بها ترامب وصهره كوشنر، لكي تكون جنة لتجار العقارات والمستوطنين اليهود؟
سبحان الله، نتنياهو الذي دمر القطاع كليا، واعدم 64 الفا من أبنائه، وأصاب ما يقرب من 150 الفا آخرين، ودمر 35 مستشفى، وقتل ما يقرب من 30 الف طفل، بات يتحدث عن حقوق الانسان، وحرية اختيار كل انسان لمكان سكنه، انها قمة الوقاحة والكذب، فهو يريد فتح معبر رفح، وبعد 700 يوم من الاغلاق من اجل تهجير الفلسطينيين وليس من اجل ادخال المساعدات، واستمرار حرب التجويع.
اذا كان نتنياهو يؤمن بأن حرية الانتقال مكفولة فليسمح لأبناء القطاع بالانتقال الى مدنهم وقراهم في الشمال الفلسطيني المحتل في يافا وحيفا وعسقلان واسدود وصفد و400 قرية وبلدة جرى ازالتها من الخريطة، وتهجير أهلها في عدوان عام 1948، وانا واسرتي من بينهم.
مصر قادرة على مواجهة العدو الإسرائيلي عسكريا، وجيشها الأقوى في المنطقة كفيل بتدمير دولة الاحتلال وهزيمتها لما تملكه من رجال أبطال، وقيادة عسكرية وطنية مشرفة، وما زالت عقيدة مؤسستها العسكرية تعتبر “إسرائيل” العدو الأول لمصر وللامتين العربية والإسلامية، ولا يمكن ان تنسى دماء وارواح الآلاف من شهدائها الذين ارتقوا في الحروب الأربعة التي خاضوها دفاعا عن شرف الامة وكرامتها وانتصارا للحق.
***
فاذا كانت حركة طالبان الأفغانية المحدودة الإمكانيات العسكرية، هزمت أمريكا العظمى وأجبرتها على الهروب بشكل مهين، فلماذا لا نتوقع ان تفعل مصر وجيشها، الوحيد المتبقي لنا، النصر نفسه؟ ألم تخترق خط بارليف، والمخابرات الإسرائيلية وتهزمها، وتعبر الى سيناء وفي وضح النهار في حرب أكتوبر رمضان عام 1973؟ فلماذا ينسى البعض هذا الاختراق ويتحدث عن الاختراقات الإسرائيلية باغتيال المجاهدين في غزة ولبنان وايران؟
دولة الاحتلال تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولعل الضربة القاضية تأتي على أيدي الجيش المصري وأبطاله، ونتمنى ان لا يترك العرب هذا الجيش وحده، مثلما تركوا غزة لوحدها، بل وتعاون بعضهم مع الاحتلال، وزودوه بأسباب الحياة، ونتمنى ان نرى طردا واغلاقا للسفارات الإسرائيلية، ونحن في هذه الصحيفة نقف في خندق مصر العظمى في حربها ضد الاحتلال، وكل مشاريعه، وتهجير الفلسطينيين على رأسها، مثلما وقفنا في خنادق العراق وسورية واليمن وايران في مواجهة العدوانات الإسرائيلية، وكلنا ثقة بأن النصر بات حتميا ووشيكا.. والأيام بيننا.
عبد الباري عطوان