شهدت تونس في 15 سبتمبر 2019 ثاني انتخابات رئاسية في ظل الثورة التونسية، يمكن وصف نتائجها التي أعلنت رسميا من قبل الهيئة العليا للانتخابات التونسية و أسفرت عن مرور مرشحين مستقلين إلى الجولة الثانية و هما قيس سعيد بنسبة 18،4 في المائة يليه نبيل القروي بنسبة 15،58 في المائة، بأنها خروج عن المألوف على اعتبار أن المرشحين لا ينتميان إلى أي تنظيم حزبي أو نقابي رسمي، فهل يمكن اعتبار هكذا نتائج بأن صرخة رفض من قبل الشعب التونسي في وجه التنظيمات الحزبية بكل تلاوينها؟ و هل يمكن لرئيس دولة تونس المقبل أن يحدث قطيعة حقيقية مع واقع البلاد المتردي و المستمر رغم “ثورة الربيع العربي”؟
إن المتأمل في نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية يستطيع أن يستنتج بكل سهولة مدى سخط و رفض الشعب التونسي للسياسات الرسمية و أدائها سواء على مستوى مؤسسة الرئاسة أو الحكومة أو حتى البرلمان الذي تنبثق منه هاته الحكومة، فعلى مدى حوالي عقد من الزمن مر عن انطلاق شرارة “الربيع العربي” في تونس مازال واقع التخلف و التردي الاقتصادي و الاجتماعي المتمثل في الفقر و البطالة و تخلف البنيات التحتية و انعدام العدالة المجالية و غيرها من الظواهر التي لم تتغير عن عهد الرئيس المخلوع “بن علي” بل و زادت حدة في بعض المناطق و ذلك بالرغم من بعض التغييرات المهمة على مستوى الممارسة السياسية و الحقوقية في البلاد، فثورة الربيع العربي في تونس لم تستطع خلخلة البنية الصلبة للنظام السياسي في تونس بالرغم مما جاء في الدستور الجديد الذي وزع السلطة بشكل متوازن بين رئاسة الجمهورية و رئاسة الحكومة، إلا في مستويات شكلية لا تسمن و لا تغني من جوع،و قد سبق للمتحصل على الرتبة الأولى في هاته الانتخابات السيد”قيس سعيد” أن عبر على هذا الأمر بقوله:” إن النظام السياسي الجديد عصي عن التصنيف”.
إن العارف ببنية الأنظمة السياسية في البلدان الخارجة شكليا من الاستعمار الغربي إبان موجة الاستقلالات التي عمت البلدان الرازحة تحت نير الاحتلال خلال فترة الخمسينيات و الستينيات و منها تونس يستطيع أن يلحظ مدى التبعية الوثيقة لهاته الأنظمة بالغرب ما ينعكس سلبا على أي تنمية حقيقة لشعوب هاته البلدان اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا، ونتيجة لذلك و بناء على نهج سيرة المرشحين للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التونسية يمكن أن نقول عنها بكل اختصار بأنها تتضمن كل الشروط الجوهرية الذاتية و الموضوعية المطلوبة في أي رئيس دولة خاصة السيد “قيس سعيد”، إلا أن توفر الشروط المطلوبة للرئاسة شيء و عملية أحداث تغيير حقيقي يمس آمال و طموحات الشعب التونسي و يطور الدولة التونسية سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا شيء آخر تماما، فهل يستطيع الرئيس الجديد لجمهورية تونس أن يحدث مثل هكذا تغيير لصالح الشعب و الوطن التونسي في ظل بنية سياسية تفتقر للسيادة بمفهومها الحقيقي؟ و من ثم هل يستطيع مثل هكذا رئيس أن يخوض معركة بمستوى إحداث ثورة من داخل بنية النظام القائم؟
في الواقع إن تحقيق مثل هكذا أهداف دونها معاركة حامية الوطيس مع الدولة العميقة التي مازالت مستمرة في تونس و أدواتها و تعبيراتها السياسية و الاقتصادية، كما أن حراس المصالح الغربية خاصة الفرنسية في تونس لن تسمح بإحداث أي خرق حقيقي على المستوى الاقتصادي أو الثقافي يهدد تدفق ثروة الشعب التونسي إلى جيوب ماما فرنسا و مؤسسات الرأسمال العالمي الجشع، و هنا يمكن القول بأن هدف الحصول على سيادة حقيقية للشعب التونسي على ثرواته و مقدراته و قراراته كان من المفروض أن تضطلع به ما سمي بثورة الربيع العربي في تونس، إلا أن شروط و ظروف و اختلالات هذا الربيع خاصة على مستوى بناء الذات الشعبية و بناء الأفكار و التصورات التي تساعد على بروز قيادات في مستوى قيادة الثورات و الخروج بها إلى بر الأمان خاصة و أن معركة دهاليز السياسة الداخلية و الخارجية و تفاعلاتها المعقدة لا تقل أهمية من معركة الشارع و تغيير رأس النظام، ما أدى بالتالي إلى تكرار و استمرار نفس الوضع الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي لتونس ما بعد الثورة ، إذا استثنيا بعض الأبعاد المتعلقة بحقوق و حريات الإنسان في تونس.
خلاصة القول أنه إذا كان جل المهتمين بالشأن الانتخابي التونسي قد اجمعوا على كفاءة و صدق و وطنية المرشحين للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية خاصة السيد”قيس سعيد” فإن معركة النهوض بتونس و تجاوز واقعها الحالي الذي خيب آمال الكثير من التونسيين و هذا ما ظهر جليا من خلال رفض المنتخبين التونسيين لكل المنظومة الرسمية المرشحة لهاته الانتخابات، هي المعركة الحقيقة التي تستحق أن تخاض من قبل رئيس الجمهورية المقبل، فحرية التعبير عن الحقوق و حرية الممارسة السياسية كلها أمور مطلوبة و مهمة جدا إلا أنها لا تطعم جائعا و لا تحفظ كرامة مهدورة و لا تبني أنسانا تائها إن لم تترافق مع تدابير اقتصادية و اجتماعية و ثقافية جوهرية و ملموسة تهدف إلى توزيع حقيقي للثروة و عدالة مجالية متوازنة و تركز على هوية و ثقافة تونس الحقيقية، و هذا أمر لعمري يمكن أن يشكل أكبر هدية للشعب التونسي من قبل رئيس الجمهورية الجديدة و تتويج جوهري لمسار ثورة تونس، و يجعل من هاته الانتخابات الرئاسية صفحة جديدة من تاريخ تونس كما عبر عن ذلك “قيس سعيد” نفسه.
محمد الخليفي
حاصل على دكتوراه في القانون العام من جامعة محمد الأول بوجدة (المغرب)
عضو المكتب المسير لمركز الريف للدراسات و الأبحاث بالحسيمة
موظف بقطاع التربية الوطنية