"تشكل اللغة العربية، اللغة الرسمية للبلاد واللغات الوطنية الأخرى، البولارية والسوننكية والولفية، كل في حد ذاتها، موروثا وطنيا مشتركا لجميع الموريتانيين يجب علي الدولة باسم الجميع أن تحفظه وتطوره"
من ديباجة دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية
يمثل التشاور الحاضن للرأي السياسي، تراكمات التعثر الاجتماعي، الطرح الثقافي و التأكيد على جدية الأدوار التنموية لمختلف القوى الوطنية؛ يمثل، فرصة نادرة لتماسك الجبهة الداخلية وترجمة الإجماع إلى تفعيل القانون الأساسي وتبني الدور الحضاري للبلاد والعبور نحو تشبث حصري بهوية موريتانيا كدولة عربية إفريقية مسلمة، وسيلتها للتعبير السيادي اللغة العربية، واطلاعها النشط في مجال التضامن الدولي بخيارات ترقية وتعزيز وحدة الأمة العربية وإفريقا والعالم الإسلامي وإشاعة السلم والوئام بين شعوب العالم.
بتعدد القوى الاستعمارية وإمعانها في نهب خيرات البلاد، اتحدت أساليب وغايات غزوها في استهداف الهوية الحضارية، بمحاولة تشويه رسالة الإسلام ومحاربة اللغة العربية ونفوذها الروحي والحضاري في القارة؛ واستمر ت الحرب الشاملة على الهوية بعد الاستقلال من خلال الحضور المباشر للمستعمر ووكلائه في الحياة العامة للدولة الحديثة، التي جاهدت مرجعياتها الروحية والاجتماعية ونخبها السياسية من جميع المكونات الوطنية للتملص من قيود المستعمر وكسب معركة الهوية التي جٌندت ضدها قوى إقليمية ومجموعات وشخصيات محلية ساهمت بشكل مرعب وعنيف في استهداف وحدة الشعب الموريتاني ودينه ولغته وأمجاده، بالترويج لدولة عرقية تفتقد للشرعية التاريخية والظروف الموضوعية، مع ترسيم لغة المستعمر المرتبطة بماضي استهداف الحضارة في الصحراء الكبرى وعمقها الإفريقي و دموية المجازر وممارسات النهب؛ والقصور المعرفي العاجز عن مقارعة اللغة العربية ونفوذها على الحضارة البشرية، بما فيها لغة المستعمر التي تدفقت سفاحا أول أمس من جثة اللاتينية وثروة الأمم المستعمرة.
بعد رفض مختلف المكونات الوطنية، بما فيها الأقليات، لفرض هوية المستعمر، مهد هذا الأخير لارتهان السلم المدني للدولة الوليدة، بتحريك شخصيات من إحدى مكونات الأقليات فرض مشاركتها في مؤتمر ألاك، عامين قبل الاستقلال الفعلي، لتبني خطابه المطالب باعتماد المحاصصة العرقية واستبدال لغة الفرقان بلغة كبولاني.
تمكن المستعمر من اختراق البنية الفوقية لإحدى مكونات الأقليات، انتقاما من أدوارها التاريخية في مناهضة مدارسه والاستماتة في الدفاع عن الحياة الروحية للبلاد والمساهمة في نشر اللغة العربية، ودورها الحضاري في مقاومة المستعمر ومشروعه تحت قيادة الزعامات التقليدية وبتنسيق مباشر مع قبائل الأغلبية العربية لرفع السلاح في وجه جيش المستعمر دفاعا عن الإسلام واللغة العربية، ليأخذ صمودهم لاحقا شكل مقاومة ثقافية مستمرة، بإطلاق مدارس "الفلاح" الإسلامية في أربعينيات القرن العشرين التي أسسها الشيخ الحاج محمود باه، حيث نشطت في نشر الثقافة والعلوم الإسلامية واللغة العربية.
وكرد سياسي على الدعوات العرقية الممجدة للغة الاستعمار ومشروع التشرذم الثقافي و النفي و الإقصاء ومحاولات النيل من روافد الهوية الإسلامية الجامعة واللغة العربية كخيار ثقافي وحاضنة مجتمعية للتعايش وكسب تحديات الوجود المشترك؛ انتظمت نخب الأقليات لمواكبة الانفتاح الديمقراطي مطلع تسعينيات القرن العشرين، في إطار " الرابطة" بقيادة البرلماني و وزير الخارجية السابق الشخصية الوطنية والقانوني صو آبو دمبا، إضافة إلى مرجعيات روحية وزعامات اجتماعية وقيادات سياسية وقوى جماهيرية عريضة من مختلف ولايات الوطن، معلنين تمسكهم بوحدة المجتمع وقيمه الإسلامية العربية والإفريقية والتصدي لدعاة المشروع الاستعماري واعتباره استهدافا خطيرا لهوية الشعب والدولة و تكريسا للتفرقة وخطاب الكراهية.
وقد أطلقت نفس الجماعة مؤخرا «الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية»، مطالبة باعتماد قانون تطبيقي للمادة السادسة من الدستور، يلزم بإحلال اللغة العربية واللغات الوطنية الأخرى محل أي لغة أجنبية في الدولة، مشددة على ضرورة استحداث مجلس وطني توجيهي أعلى للسياسة اللغوية توكل إليه مهمة تطوير اللغات الوطنية واعتماد الأبجدية العربية لكتابتها.
و اعتبرت الحملة الشعبية أن "اللغة العربية هي روح الإسلام و لسان القرآن"، مستحضرة دورها القوي كلغة للعبادة والعلم والتعلم والتجارة في غرب القارة الإفريقية. كما أكدت أن التجاذبات والصراعات الحالية بخصوص هوية موريتانيا مجرد نوع من "محاولات المستعمر اجتثاث الماضي، واستبداله بحاضر ملؤه التفرقة والتشرذم والتنصير" .
تبنى الاتحاد الإفريقي الإشادة بالدور الحضاري للغة العربية على مستوى القارة، والتمسك بالحرف العربي لكتابة لغات شعوبها، وأكد ميثاق المنظمة القارية على الأهمية القصوى للحرف العربي واعتبرته تراثا إفريقيا يحظى بالأسبقية على جميع الأبجديات الأخرى، لكتابة اللغات الإفريقية.
وثقت كذلك، منظمتي " اليونسكو " و "الإيسيسكو" انتشار اللغة العربية على نطاق واسع في العديد من البلدان الإفريقية والآسيوية حتى منتصف القرن العشرين وكتابة اللغات الوطنية في القارتين بأحرف عربية (عجمي) في إفريقيا مع احترام شكل الحرف، ولازال معتمدا في مجالات محو الأمية و التعليم الديني والمراسلات والمعاملات اليومية بفضل صمود اللغات الوطنية وتمسكها بلغة القرآن الحافظة للدين والموثقة للإلتزامات داخل المجتمعات والمدونة للأدب والفن وتراث شعوب القارة بصفة عامة.
اعتمد الإنتاج الأدبي باللغات الإفريقية بصفة حصرية قبل الاستعمار الأوربي أبجدية اللغة العربية وأعطى الصدارة لمصطلحاتها واستخدم قواعدها النحوية، ومن بين هذه اللغات الإفريقة، تلك المستخدمة من طرف الأقليات في موريتانيا، خصوصا " البولارية" و " فولفولدي"، المتحدثة من طرف مجموعات " الفلان" و " الهالبولار"، و " السوننكية" و " الولفية"، و يزخر الأرشيف بتراثها العلمي والديني الذي يعتبر من مصادر ثراء وتنوع الثقافة العربية الإسلامية المستهدفة بقوة لتفكيك عرى الهوية الثقافية والحضارية للشعوب الإفريقية على اعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية الإسلامية.